الحوار لغة عالمية، لغة مختلف الأجناس والعقائد المختلفة، والاتجاهات المتباينة. والسؤال الذي يلح عليَّ بشدة متناهية: لماذا ترفض الحوار؟!
ربما لأنك زائف في معلوماتك، خاوٍ في ثقافتك، فارغ من ذات يدك من الحيل والبراعة. الحوار يكشف عن ذاتك، عن كيانك، عن داخلك، يجعلك كتابًا مفتوحًا، شاشة مرئية، إذاعة مسموعة. يمكنني أن أقرأك، أن أراك، أن أتفهَّم أقوالك، ذاتك، تفكيرك. يمكنني أن أتغلغل في داخلك، في عمق قلبك، في لب لبك وفكرك. إنني بالحوار يمكن أن أزيل السدود والحواجز بيني وبينك. أيها الآخر، لم تعد ـ بالحوار الآخر، وإنما اكتسبت مدلولاً آخر، أكثر قربًا، أكثر وضوحًا، أزهى معنى، أنضج مفهومًا. صرنا معًا فكرًا واحدًا، متقاربًا، متمازجًا، متحدًا. صرنا متفاهمين، متعاونين، لا يمكن بعد هذا الحوار الهادئ العميق الواضح البناء، لا يمكن بعده أن نختلف، أن نبتعد، أن نتدابر، أن نتقاطع، أن نتشاحن. لا يمكن أن أحجر على رأيك،00 أن أكمم فاك، أن أقيد فكرك، لا يمكن أن نقطع ثمرة هذا الحوار الناضجة؛ لنترك الساحة خلفنا بوارًا وقفارًا. لا يمكن أن نبني، أن نتقدم، أن نرتقي ـ دون حوار هادئ وبناء.
هل تريد أن تعرف نفسك؟ أن تتوغل في ذاتك؟ أن تكتشف مجاهل كينونتك؟ أن تدرك عيوبك ومزاياك؟ قمْ بمحاورتي، افتح قلبك وعقلك لي، ضع نفسك بين يدي على طاولة الحوار، وانظر إلى نفسك من خلالي، من ثنايا الحوار. الآن، والآن فقط أنت قد وصلت إلى فهم كينونتك، إلى فهم ذاتك، إلى معرفة نفسك، بعد أن خرجت من عزلتك، وانتصرت على خجلك وخوفك. الآن، والآن فقط أنت تعرف ماذا تريد، ماذا لديك. تستطيع أن تزن نفسك، وتوازن بينها وبين إمكانياتك. وأرجوك، لا تغضب من صراحة الحوار، من صدق الآراء، من شفافية الكلام، فكل ذلك سبيل لك لتصل إلى نفسك، لتتعرف نفسك تلك التي تسكن بين جنبيك، ولكنها غريبة عنك، بعيد أنت عنها، بعيدة هي عنك. الآن فقط زال هذا البعد، وانقشع الظلام، وزالت الغشاوة. الآن أنت ترى نفسك، تبصرها بعينيك، بقلبك، بكل جوارحك وحواسك. الآن فقط تستطيع أن ترسم طريقك، أن تخطَّ مستقبلك، وأن تسير بخطى ثابتة للرقي بذاتك. وكلما تقدمت وارتقيت وحققت ما تأمل، لا تنسَ أنك مدين لهذا المصباح الذي أنار لك الطريق، وكشف لك جوانب نفسك. أنت مدين للحوار.
د. سعيد محمد المنزلاوي