ما أن إنتهت الهدنة التي فرضتها الظروف الميدانية للواقع القتالي في قطاع غزة حتى عاد مشهد الدّمار والقتل والقصف يتجدد في أحياء مدينة غزة، فالموت يخيم على كل المناطق في القطاع حتى أصبح يعج بعشرات الشهداء والقذائف الشعواء ركزت في اختيارها على المدنيين والأطفال الرضع لتطفىء لهيب حقدها في صدورهم وجماجمهم. فغزة أصبحت المكان الأكثر سوداوية في العالم، ففي كل دقيقة يِستشهد أبرياء و بتعبير أكثر حَوَلَ القصف القطاع الى كتلة هائلة من الدمار وزاد النقص الحاد للأدوية وانقطاع الكهرباء والماء وانعدام وسائل ومقومات الحياة الأوضاع تفاقما.
يرافق هذه الإبادة الممنهجة خطى متسارعة لقوات العدو التي تبحث عن نصر فوق جماجم المدنيين العزل حتى ولو كان نصر وهمي يحفظ لهم ماء وجوههم أمام ضغط الشارع الداخلي والأزمة التي تعصف بحكومة الحرب بعد توالي الخسارات، هذا ان بقي لهم بعض من ماء الوجه وصور ضباطهم وجنودهم وجثثهم المتراكمة في شمال غزة تعج بوسائل الاعلام مع توثيق المقاومة للكثير من المعارك من قلب تحشدات الكيان.
بعد الهدنة وصلابة المقاومة رأى المحتل انه لا يمكن أن يفاوض المقاومة وفق المعطيات الحالية من جهة ولا يمكنه إرضاء داعميه و كسب تأييد مستمر منهم دون تحقيق النصر الذي شرحت سابقا شكله من جهة أخرى . فكان الجنوب والذي سبق وصنفته إسرائيل على أنه منطقة امنة ودفعت بالمدنيين بعد 15 يوم من القصف الجنوني لغزة والشمال بعد تأكيد العدو أن الجنوب أمن وقصفت قوافل النازحين رغم ذلك، وها هي تبدأ العملية في خانيونس وتقصفها لتفاقم معاناة الغزيين لينزح قسم كبير منهم الى رفح في الأسبوع الأخير. ليكون الهدف من هذه الحملة إنتقامي بحت بعد الفشل الميداني في غزة والشمال التي أُفرغت من سكانها وبالتالي أصبحت هدف أسهل لأي جيش يسعى لتحقيق أهداف عسكرية لو كانوا يسعوا لذلك وبذلك تتبلور تداعيات الحرب على الجنوب وهي الانتقام من الغزيين والضغط على المقاومة من خلال تعميق الكارثة الإنسانية في غزة.
بعد ضغط الشارع الأمريكي على حكومة بايدن و التظاهرات الغير مسبوقة التي اجتاحت الولايات الأمريكية واستقالات بالجملة لمسؤولين أمريكيين احتجاجا على سياسات بايدن ودعمه اللامحدود للعدوان على غزة، وقرب الانتخابات الرئاسية الأمريكية وجد بايدن نفسه في موقف صعب وبدأ التفكير في مستقبله السياسي وضرورة تخفيف حدة الحرب لما تحمله من تأثير طردي على الشارع الأمريكي، خصوصا بعد خسارته للكثير من الناخبين والمؤسسات التي وضعت ثقتها ببرنامجه.
وإن هذا الدعم اللامحدود والغطاء السياسي الأمريكي للعدوان زاد السخط الشعبي على الولايات المتحدة في الأوساط الشرق أوسطية وهذا دفع الكثير من الجماعات لمهاجمة القواعد الأمريكية بإعتبارها متواطئة في حرب غزة مما يهدد مشروع الولايات المتحدة برمته في الشرق الأوسط ويفشل مجهودها الكبير في سبيل ذلك. فراح بايدن يشدد على ضرورة تحييد المدنيين والطواقم الطبية والصحفيين واستنكار استهدافهم وضرورة فتح معبر رفح امام المساعدات الإنسانية وينبه نتنياهو من جره الى نقطة اللاعودة بمحاولة منه لتهدئة الرأي العام الأمريكي وضبط المشهد العام.
أما وسائل اعلام العدو وعلى الرغم من سخطها من حكومة الحرب وتحميلها مسؤولية الفشل الا أنها تنقل رواية نتنياهو والتي تخلص الى أن حماس جنحت للهدنة بعد القصف العنيف والقوة المفرطة فعليه على الإسرائيليين أن يكرروا السيناريو في الجنوب، إن كانوا يودوا تحرير رهائنهم العسكريين كتبرير للإبادة الجماعية في الجنوب.
فخيار العودة للقصف أخف وطأة على الحكومة من المحاسبة والاستجواب وأقل تكلفة من الإنسحاب في ظل مستقبل مجهول لأعضائها ولكن من جهة أخرى يزيد خيار الحرب السخط في أوساط الشارع الإسرائيلي، لأنه سيقوض فرصة نجاة المخطوفين من وجهة نظر ذويهم ويعرضهم للموت والخطر في ظل عدم رؤيتهم لأي مكاسب ميدانية على الأرض واستمرار خروج الصواريخ من غزة الى المستوطنات القريبة والبعيدة.
فكل هذا يبقي ما روج نتنياهو من أهداف وهمية وأكد تحقيقها حبيسا لأدراج دوائره المغلقة بعد فقدانه ثقة الشارع وانتقاده العلني في الأوساط الإعلامية.
كل هذا وأكثر فقد إزدادت الخسائر في صفوف الجنود والضباط الذين بدأ ذويهم بالاتصال بهم او الاستفسار عنهم فإضطر قادة العدو من الإفصاح عن قتلاه في معارك غزة. خصوصا بعد فرض المقاومة واقعًا جديدا ألقى بظلاله على المشهد برمته بعد تمسكها بعدم التفاوض قبل وقف العدوان تحت أي ظرف واعدادها لقائمة مطالب تتناسب مع التضحيات الشعبية والنجاحات الميدانية لأي مفاوضات جديدة وقدمت أنموذجًا يحتذى به في إدارة الصراع فالشروط ستكون تبعًا لما تفرض ظروف المرحلة. ورفضت أن تفاوض على ذات الشروط التي خلصت اليها الهدنة السابقة كون العسكريين لهم ظروف تفاوض مختلفة تماما تتعدى حدود الكل بالكل وتبييض السجون، وكان هذا سببًا في تجدد العدوان وزيادة حدة القصف .في الوقت التي ترى المقاومة فيه صفقة التبادل على أنها وسيلة ضغط وبوابة لمشروع وطني شامل يُخرج من حالة الإنقسام والتشرذم ويتضمن إطلاق سراح المعتقلين كافة وإعادة الإعمار والإشراف التام على إدارة المعابر وفك الحصار وإطلاق حوار فلسطيني فلسطيني يشمل الداخل والخارج وإعادة ترتيب البيت الفلسطيني على قاعدة الوفاق الوطني وحسب النتائج التي فرضها الواقع الجديد للإنتصار.
وبالتالي فإن المحتل قد تنبه منذ عملية طوفان الأقصى البطولية وخلُص بأن أي مشروع فلسطيني يفضي إلى حل دولتين من شأنه أن يقوض المشروع الصهيوني التوسعي الأخذ بالتأكل فإن قيام مشروع دولة فلسطينية في غزة سيعني اقتران الضفة المحتلة التي هي أصلاً جزء من الصراع وتستنزف العدو ومستوطناته وتشكل عقبة أمام محاولات طمس الهوية العربية الفلسطينية رغم كل محاولات تحييد الضفة وسلخها عن الواقع الفلسطيني من خلال التنسيق الأمني وغيره.
فحسب دراسة أجراها قادة الكيان الصهيوني فإن المستوطنات المترامية الأطراف في الضفة تثقل كاهل الجيش الإسرائيلي وتستنزف مخزونه البشري فالمستوطنات الصهيونية مزروعة في وسط محيط معادٍ لها ولوجودها فالوحدات الشرطية وقطع الجيش تملأ الضفة لحماية قطعان المستوطنين وهذا كافٍ لزيادة الضغط على المشروع الصهيوني ويكفي معرفة أن العدو قد نقل فرقتين عسكريتين من محيط غزة قبل العملية المجيدة في 7 أكتوبر بأسبوع لقمع احتجاجات الضفة. فليس من المنطقي أن يستمر وجود هذه المستوطنات إن قام مشروع دولة فلسطين في غزة، لأن غزة ستكون قاعدة إسناد لنظيرتها وعمق استراتيجي لمقاومتها.
ولعل ما يجري اليوم يصب في بوتقة الإنتقام وإستنزاف القدرات القتالية للمقاومة وتدمير فرص الحياة والبنية التحتية وإستهداف العلماء والعقول وكل من شأنه أن ينهض بالوضع الفلسطيني أكبر دليل على دراية العدو بخطر هذا المشروع على وجوده واقترانه بقرب زوال الكيان.
فركز العدو ومن خلفه الولايات المتحدة منذ بداية العدوان على عدة نقاط وسيناريوهات رأى أن من شأنها وأد هذه الهبة الفلسطينية الطموحة وهي الضغط على سكان القطاع من خلال الضوء الأخضر لحليفتها إسرائيل لإفراغ القطاع وبالتالي تكرار سيناريو النكبة ،بالتزامن مع الضغط على دول الجوار كمصر والأردن للرضوخ لمطالب الجانب الإسرائيلي لتقديم المزيد من التنازلات في حال تَحَقُق أي هدف من أهداف العدوان على غزة.
لتكون جاهزة لنقطة مستقبلية وهي استيعاب هذه الدول لأكبر عدد من اللاجئين من القطاع مغرية أياها بمساعدات مالية وبعض الامتيازات، ليكون القطاع فريسة سهلة أمام محاولات الإدارة الأمريكية إنتهاز فرصة السيطرة على إحتياطي الغاز على شواطىء غزة و الذي يقدر ب 1.5 مليار برميل خام و 104 ترليون قدم مكعب من الوقود الأزرق. كما أن الأمريكيين يودون أن يكون لهم اطلالة بحرية على البحر المتوسط موازية لقاعدة حميميم الروسية في طرطوس وليس هنالك أفضل من غزة.
لكن كل هذه المخططات والسيناريوهات ورغم كل الدمار والكارثة الإنسانية في غزة محكوم عليها بالفشل فها نحن نرى نجاحات المقاومة في الميدان رغم الجراح وتدميرها لأليات العدو وقنصها جنوده بل وجرهم لأصناف الفخاخ سوق النعام. وصمود الغزاويين الذين يخرجون من بين الركام يفقدون أحبتهم، منازلهم، مصادر رزقهم ومدينتهم التي حفظت في جدرانها ذكرياتهم وتجدهم يكررون الحمد لله على كل حال مسطرين أبهى صور الرضا بالقضاء والصبر على البلاء ، فكيف لهذا الشعب، الإرادة والإيمان أن تنكسر لا شك ان هذه المهمة تعد مستحيلة في ظل انعدام النجاح الميداني للعدو وضعف معنويات جنوده الذي ابتلعت رمال غزة الكثير منهم.
ولعل الأيام القادمة ستفرج عن الكثير من الفيديوهات المصورة التي توثق هذا الانهزام.
الكاتب والباحث محمود النادي
محتوى جمييل و مؤثر كل الدعم
مبدع اتمنى التوفيق الدائم يارب ❤️
مبدع
اتمنى لك التوفيق