همس الأثير
قصة قصيرة.
لم أحب ذلك الرجل يوما. ربما لذكرى محفورة في طفولتي الأولى لمشاهد شجاره مع أبي، حيث علت أصواتهما بالزعيق والصخب. لا أذكر كلمات ولا جملا بذاتها، ولكن أذكر كيف كان صوت أبي مفعما بالكثير من العتاب واللوم، وصوت الرجل ممزوجا بالسخط، والكثير من الكبرياء والغضب، وبعضا من الكراهية والحقد!
لم أفهم، ولم أحاول حتى أن أستوعب تلك النظرات المحمومة. غير أني فقدت أبي فجأة. سألت أمي عنه فأشارت إلى السماء ودموعها تنسكب على خديها قائلة إنه قد ذهب إلى مولاه، وأكدت أنه سعيد هناك لا ريب، حيث لا هم ولا كيد.. كيف ذهب؟ حركت كتفيها وتهدج صوتها وهي تلوح في الهواء كمن ينفض غبارا أثيريا لا تدركه العيون: مثل جدك وجدتك. هم السابقون وسنلحق بهم حتما.
بيد أن الرجل أهداني مرقابا أثيريا كبيرا، ثبته على سطح منزلنا، ودعاني كي أتابع القمر. أحببت هديته! شعرت كأنه يحاول أن يوصلني بخيط واهن مع أبي الساكن هناك في البعيد. استدرت كي أشكره ولكنه اختفى. هبطت الدرج فوجدت باب البيت موصدا كحائط منيع. استرقت السمع فعرفت نبرته. هي نفسها المحفورة في ذاكرتي المتعبة، لكنها صارت أرق وأهدأ، وإن كانت ممزوجة بالرغبة، والاشتهاء، وكثير من النصر! سمعت صوته يهمس باسم أمي، وسمعت صوتها مكتوما كأنه بكاء، أو تدلل، أو ربما كلاهما! شعرت بالوحدة، وصعدت إلى السطح كي آنس بالمرقاب الجديد. كانت السماء حالكة، وفيها النجوم كحبات الخرز، وقد علا فيها القمر كمصباح. نظرت من خلال المرقاب في توجس، فوجدتني في عوالم أخرى. كان للقمر تضاريس، وأخاديد وهضاب، فشعرت كأني أسير هائما في فيافيه بناظري. وجهته نحو النجوم، وتذكرت معلومة أخبرني بها أبي يوما؛ أن ما نراه هو ماضي النجوم وليس حاضرها، وأن الصورة تعتمد على ذهاب الضوء ورجوعه عبرالمسافة بين النجم وعيوننا. سرت فيّ قشعريرة باردة؛ ترى هل أستطيع أن أراك يا أبي بين هذه النجوم؟ أ تراك تسكن إحدى هذه الأجرام؟
لفتني كويكب صغير لمحته في ركن من أركان السواد فوقي. لونه جميل. بدا لي وحيدا مثل كائن حزين منزو. أدرت نحوه المرقاب، وتفحصت فيه بعين قط يدفعه الفضول. وجدت ظلالا تتحرك؛ كأن طائرا يهيل ترابا على كيان يقبع تحته، وبجانبه إنسان يلطم خديه!
لم أدرك بعدها إلا وقد هل الصباح وحميت الشمس، هبطت الدرج لأجد الباب مواربا، فتحته ورأيت البيت وقد عمته فوضى غريبة: زجاجات ولفائف وكثير من أعقاب السجائر. خرجت أمي من الحمام وقد التفت بروب قصير. كأنها تفاجأت بي. لاحظت تغييرا لافتا في غرفة نومها مع أبي، تغير الفراش كما تغيرت وضعيته. كما لاحظت بلاطة علت عن سائر بلاط الأرضية في طرف قريب. لم أكترث، وأخبرتها أني لم أستطع أن أبيت في فراشي بعد أن أوصد ذلك الغريب الباب؛ فبت ليلتي على السطح. نظرت إلي متعجبة في تصنع وقالت إنها ظنتني عند خالتي. أخبرتها بما رأيت في المرقاب، فتيبست نظرتها لحظات كأن زمنها توقف، ثم أخبرتني أنها بالتأكيد مجرد خيالات عقلي الواهم، وسرعان ما استعادت نشاطها المعتاد.
في الليل ظهر الرجل من جديد. دعاني إلى السطح ثم نزل ودلف إلى البيت وأوصد خلفه. سمعت نبرته من وراء الباب ضاحكة منتشية، ورائحة السجائر وصوت الكؤوس، وصوت أمي خافتا ومتدللا إلى حد البكاء. أخبرت أمي بما رأيته عبر المرقاب في تلك الليلة..تسمرت عيناها كدمية، وانفرجت شفتاها كشق تصدع إثر زلزلة مهلكة. قلت إني رأيت على ذلك الكويكب خيالات فتاة تتلوى أمام عرش ملك، وأن ظلا قد أتى لها بصينية عليها وجه إنسان. لم تعد أمي إلى طبيعتها مذ ذلك اليوم. في الليل استرقت السمع عبر باب بيتنا الموصد، وقد حرص ذاك الغريب أن يبقيني خارجا. سمعتها تبكي وتولول، وسمعته يسخط ويزمجر. تذكرت زعيقه مع أبي وهو يزعق مع أمي. لم أتبين إلا بضع كلمات : خيال.. ولد..تافه..ربما يقرأ قصصا..
صعدت مهرولا نحو السطح وقد انتابني خوف مقيت. ما الذي يروعها فيما أراه من خيالات على ذاك الكويكب إلى هذا الحد؟
لم يعد ثمة صوت يتردد سوى الصمت، وبعض نسمات باردة، وصوت أنفاس لاهثة تنبعث من خلف ذلك الباب.
وضعت عيني على المرقاب، وتوجهت نحو ذاك الكويكب الوحيد المنزوي لأرى ما يحكيه لي مثل كل ليلة. وجدت خيالات لجسد مسجى، وبقرة مذبوحة، يقتطع منها أحدهم عظما، ثم يضرب بها ذلك المسجي فيقوم، وهو يشير بسبابته نحو شيء ما.
Elking, [17.11.2024 16:43]
في الصباح لم تنتظرني أمي حتى آتيها بقصتي. سألتني متلهفة. ترددت..قلت لها إنها أوهامي، فصوبت ناظريها نحوي راجية ومتوسلة..لما قصصت عليها اسود وجهها، وارتعشت أطرافها كأنها رأت شيطانا. في الليل سمعتهما يتشاجران. كان صوته غاضبا كالهدير، وصوتها ينتحب كجرو يتيم. ثم فتح هو الباب بقبضة من صخر، وصعد إلى السطح حتى واجهني بعيون تتلظى بنار حقد وسخط، ثم هبط بكفه العريضة على وجهي الصغير، وصوته يرعد : كف عن هذه السخافات يا ولد!
طنت أذني ودارت رأسي إثر لطمته الضارية. فقدت وعيي فلم أستفق إلا في الصباح. أقسمت ألا أنزل إلى البيت مرة أخرى. سأظل أعيش على السطح أبحث عن أبي عبر المرقاب حتى أجده، فأسأله أن يأخذني معه. في حلكة الليل سمعت الباب يفتح، ورأيتها وقد صعدت هي إلى السطح، بوجه شاحب، وشعر منكوش، وعين ذابلة. كانت كالمندوهة لا تنظر إلى شيء سوى المرقاب. وضعت عينيها لتنظر من خلاله لحظات، ثم شهقت مذعورة، وقد تراجعت إلى الوراء..ظلت تصرخ في جنون وهي تنظر إلى المرقاب ثم إلى السماء، ملوحة بيديها كمن تحتمي من أتون، ثم ارتمت في أحضان الهواء من فوق سطحنا حتى ارتطمت فوق الأرض جثة خامدة. حضر هو إثر صوت صراخها الملتاع، ونظر من سور السطح فوجدها ملقاة على الأديم مقطوعة الأنفاس. نظر إلي مشدوها وأنا أشير نحو المرقاب وقد انكتم صوتي. نظر من خلاله لحظات، وشهق شهقة مثل شهقتها، ثم فر كفأر مذعور مسه الجنون.
ارتعدت، وتصفد من جبهتي عرق الخوف والصدمة والاندهاش. اقتربت ببطء نحو المرقاب، ومسكته بأطراف أصابعي المرتعشة كمن يقبل على رؤية الجحيم..وجدت خيالات جسدين فوق فراش يتضاجعان، وتحتهما جسد مكفن، بينهما أرض علت قليلا من طرف قريب.
خالد عجماوي / السعودية في ٩ نوفمبر ٢٠٢٤
القراءة
__
بدايةً؛ أهنئك د. خالد إثر عودةٍ قويةٍ بعد طول غياب.
النفس الطويل سمة من سمات أدب هذا المتألق براقًا في فضاء القص القصير، ولا يحتاج المرء مرقابًا ليشاهد بريقه الأدبي الألمعي المصقول بخبرة سنين أدبية، تراكمت حتى وضعته مع من سبقوه واعتلوا عرش القص القصير.
وإلى جانب النفس الطويل؛ تميز هذا النص بحبكةٍ شديدة الإحكام .
- نحن أمام نصٍ يجبرنا منذ كلماته الأولى- الاستهلال- على الاهتمام، ومن ثم يحلق بنا في سماء الترقب متقطعي الأنفاس، وفي النهاية يهبط بنا على أرض الدهشة، تمامًا كما هبطت الأم من أعلى سطح منزلها المدنس بالخزي والعار، والملوث بدمٍ طاهر بريء، ما هدأ نزيفه حتى اقتص لنفسه من امرأةٍ منتحرةٍ وفأرٍ مذعورٍ تلقفه مسٌ من الجنون.
- ما أراه إعجازًا تقنيًا في هذه السردية، هو قدرة الكاتب على التقمص الشديد للمرحلة العمرية للسارد ( الطفل )، حيث أبقى على استغرابه ودهشته وعدم فهمه واستيعابه لما يحدث حتى نقطة الانتهاء، فبدا لنا بما لا يقبل الشك أننا عرفنا النهاية الحزينة المأوساية، بينما ظل الطفل مشدوهًا مما يرى.
- البنية الهندسية
- اعتمد القاص في بنيته الهندسية للنص على تقنية” التراكم الحدثي”، وهى تقنية أحسب – من منظوري العملي- أن الأديب المصري الراحل / يحيى الطاهر عبدالله هو من ابتكرها، أو على وجه الدقة هو أول من وظفها توظيفًا مثاليًا، لتلافي تكرارية ( الكنكنة السردية)، وقد سبق لي أن أشرت لذلك في مقالة عن الكنكنة والجمل التقريرية.
- هذه التقنية تعتمد بدء الحدث، ثم توسيعه قليلا، ثم توسيعه أكثر فأكثر، حتى تكتمل الرؤية السردية تمامًا، وهذا ما حدث فعليًا بالتوازي على محورين، الأول الطفل والمرقاب ( تعاظم الرؤية) في ثلاث فقرات كما يلي
( ١-وجدت ظلالا تتحرك؛ كأن طائرا يهيل ترابا على كيان يقبع تحته، وبجانبه إنسان يلطم خديه! )
(٢- خيالات فتاة تتلوى أمام عرش ملك، وأن ظلا قد أتى لها بصينية عليها وجه إنسان)
(٣- وجدت خيالات جسدين فوق فراش يتضاجعان، وتحتهما جسد مكفن، بينهما أرض علت قليلا من طرف قريب)، والثاني جاء مزدوجًا ( ردة فعل الأم/ ثنائية العشيق والأم وتنصت الطفل). - ردة فعل الأم وفقًا للتراكم الحدثي
(١- فتيبست نظرتها لحظات كأن زمنها توقف)
(٢-اسود وجهها، وارتعشت أطرافها كأنها رأت شيطانا. )
(٣-شهقت مذعورة، وقد تراجعت إلى الوراء..) - أما عن ثنائية الأم والعشيق، وتنصت الطفل، فهى على نفس المنهاج الاقتصاصي.
- المعالجة السردية ( نص وإشارات)
- أجاد القاص المبدع دس إشاراته السيميائية بمهارة فائقة، إذ أتى بها وكأنها عارضٌ مر أمامنا دون جلبة أو بريق ملفت…(ولم أحاول حتى أن أستوعب تلك” النظرات المحمومة”)/ (حيث لا هم ولا “كيد”..)/ (كما لاحظت “بلاطة علت” عن سائر بلاط الأرضية ).
- أما عن المعالجة النصية، نرى القاص قد ارتكن إلى المعادل الموضوعي بتخريج جديد ( إسقاط)، حيث جعل من تتابع الرؤية المرقابية وتعاظمها، معادلًا موضوعيًا لأبطال الحدث النصي( الاب المغدور به، الأم الخائنة، الصديق الخائن)، يتنامى تناميًا طرديًا مع تتالي الحدث نفسه، وهو ما سبق واسميناه ب ( التراكم الحدثي) أو (
Elking, [17.11.2024 16:43]
الحدث التراكمي).
- الخطاب السردي
- تمكن الكاتب بسهولة وحنكة سردية تمت عبر سرد هادئ ظاهريًا، لكنه متفجرٌ باطنيًا- الغموض المتعمد – دون إنغلاق مساحة التفكر لدي المتلقي، إذ جعله دائمًا تحت وطأة الترقب والانتظار لما ستؤول إليه الأحداث، التي اكتملت صورتها تمامًا مع نهايات المتن.
- اللغة والأسلوب
- لغة بسيطة تتناسب مع قدرات وإمكانات صبي، دون تبسيط مجحف للسلامة والبلاغة اللغوية، ودون مباشرة او تسطيح، إذ أحكم القاص السيطرة على بث المشاعر الطفولية – استغراب، دهشة، قوة ملاحظة، طرح دائم للتساؤلات- بسلاسة، مع الحفاظ الدقيق على تمكين الترقب والانتظار والتشويق من وجدان المتلقي.
- من جماليات النص
- ثنائيات لغوية : (مفعما / ممزوجا)/( الكثير من العتاب واللوم / السخط، والكثير من الكبرياء والغضب،) //( الكراهية/ المحمومة) وغيرها على هذا المنوال
- واهن / ساكن..،..سخط/ هبط
- بعض الصور البلاغية البسيطة المتناثرة كلألئ بين السطور.
- تناص غير مباشر مع قصة النبي يحيى والملك وسالومي.
الأديب محمد البنا