مع الرسالة 31 لقمر عبد الرحمن للكاتب الإعلامي زياد جيوسي

في الرسالة31 للكاتبة والاعلامية قمر عبد الرحمن نجدها تخرج عن المعتاد في رسائلها السابقة، وإن خرجت عن أسلوبها في الرسالة السابقة ولكنها بقيت في نفس المحور، لكن في هذه الرسالة والمعنونة: “رسالةٌ من الأميرة نينو كيبياني إلى علي خان!” تشد القارئ ليعرف من هي الأميرة “نينو كيبياني” ومن هو “علي خان” وما هي حكايتهما التي استخدمتها الكاتبة وأسقطتها برمزية محترفة على الواقع الفلسطيني، وخاصة في ظل مرور أكثر من عام على حرب الابادة في غزة، والقتل والتدمير الممنهج في الضفة الغربية، واقتحامات التدنيس للمسجد الأقصى، ولبنان أيضا الذي يواجه حربا شرسة من الاحتلال الصهيوني، وفي ظل مقاومة وصمود أسطوري لشعبنا الفلسطيني واللبناني.

وحين نعود لحكاية الأميرة وعلي خان نجد أنفسنا أمام حكاية حب كتبت في رواية بين علي خان المسلم والمنتمي الى طبقة الأغنياء والمتأثر بالتقاليد والثقافة الآسيوية والأميرة نينو المسيحية الأرثوذكسية والمتأثرة بالثقافة الأوربية، ومسرح الرواية هي بلاد القوقاز وأذربيجان بلاد علي وجورجيا بلاد الأميرة نينو ومدينة باكو التي ما زالت تعرف بمدينة “علي ونينو”، حيث التقيا في مدرسة روسية وبدأت حكاية الحب مترافقة مع النضال الوطني الذي يخوضه علي مع رفاقه من أجل استقلال أذربيجان عن روسيا، والاجتماعي حيث صعوبة الزواج بين مسلم ومسيحية، والفكري بين المتوارث الشرقي والمتوارث الغربي، ويتخلل الرواية خيانة الصديق الأرمني لصديقه علي، لتنتهي الرواية مع نهاية استقلال أذربيجان وسيطرة السوفيات عليها مجددا ومقتل علي خان في معركة التصدي للسوفيات.

هذه الرواية التي جسدتها الفنانة “تمارا كفيسيتادز” في تمثالين بارتفاع ثمانية أمتار من الأسلاك المعدنية الصلبة على حافة البحر الأسود بشكل وأسلوب متميز حيث يقترب التمثالان في تمام السابعة مساء بشكل يشير الى قبلة حب واتحاد التمثالين وكأنهما تمثال واحد ليعودا للافتراق من جديد حتى السابعة من مساء اليوم التالي، وقد خلد الرواية أيضا المخرج “آسف كاباديا” وهو هندي يحمل جنسية بريطانيا بفيلم يحمل اسم “نينو وعلي” ليصبح علي ونينو رمزاً للحب في العالم، وقد نشرت الرواية تحت اسم مستعار للكاتب هو قربان سعيد وإن كان يعتقد أن المؤلف هو الكاتب “بليف نوسيمباوم” من أذربيجان، وقد عرفت الرواية من خلال الرسامة الألمانية “جونيا فرامان” التي عثرت عليها بمكتبة في أذربيجان بالصدفة فأعادت نشرها بعد ترجمتها الى الألمانية عام 1937م، وبعدها ترجمت الى أكثر من 30 لغة في العالم.

بعد هذه المقدمة التعريفية لحكاية الأميرة “نينو كيبياني وعلي خان” سنرى كيف أسقطت الكاتبة الرواية على الواقع الفلسطيني المر، فنراها تخاطب حبيبها أن يكون معها وأمامها فتهمس له: “كثر الرّماة يا حبيبي فكن أمامي!” وهنا نلاحظ أن المحبوبة اشارت لكثرة الرماة أمامها، وهذا اسقاط للفكرة على فلسطين الذين تكاثر الرماة والأعداء أمامها، فنجد غزة تواجه مجموعة دول وليس الاحتلال وحده، هذه الدول التي تزود الاحتلال بالمال والسلاح والمرتزقة للقتال، وغزة تواجههم وجها لوجه منذ أكثر من عام، لتكمل القول: “أظنّ أنّ مشاعري على مرمى قنصة!”، فالمشاعر متألمة من تخلي الاخوة عنها عرب ومسلمين وتركها وحدها في الميدان تواجه العدوان وحرب الابادة، وهذه المشاعر تجاههم أصبحت “على مرمى قنصة!” لتنتهي، فهي لا ترى منهم الا بعض المبادرات التي أشبه برماد ينثروه في أيام عاصفة فلا يبقى ولا يذر، فهذه المبادرات بلا فعل تنقص من القدر فتقول قمر: “هل ينقص بالمبادرة قدري؟ ربّما.. ففي مدينتي ومعتقدي ألف غصّة!”، فلا تترك هذه المبادرات إلا الغصة في النفوس.

المقاومة هي الشمعة التي ترى الشاعرة أنها تضيء العتمة في عالم يسوده الظلام ونرى ذلك بقولها: “لا ذنب للشّمعة أن تذوب كلّ مرّة؟ لولا أنّني أريد أن أمنح اللّيل فرصة؟”، فالمقاومة شمعة تحترق وتذوب من أجل انارة ليل العرب، وتنادي الشاعرة على لسان الأميرة: “تكفينا لحظة.. تكفينا لحظةٌ يا حبيبي”، فالفرح مفقود وهي ترى معبرة عن ألم شعب يعاني وأنه يكفينا لحظة لنفرح، فقد آن لنا أن نفرح، وتكمل النداء: “ويكفي في بعض الأحيان أن يتحد النّداء مع صمت الحسرة!”، فالحسرة تملأ الحياة في ظل الحرب والشهداء لا يجدون الأكفان للدفن والآلاف ما زالو تحت الأنقاض، فيبقى النداء لرب العباد وليس للعبيد الذين استمرئوا العبودية، فأصحاب الحق ينشدون: “اطلب النّصر في الحرب، حتّى لو تساوى الوجود مع العدمِ”، فلا قيمة للحياة بلا كرامة، والحق لا يعود بدون التضحيات، و”ما أخذ بالقوة لا يسترد بغير القوة”، وهنا ترى الشاعرة أن النصر لا يكون بالحب بل بالحرب، فهي تسأل: “كيف تجرؤ وتطلب النّصر في الحبّ؟!”، وتؤكد على مسألة: “ما رأيت يومًا محبًّا غير مُنهزمِ!”، وبالصمود تقهر الأعادي: “قهرتُ فيَّ قهر الأعادي”، وبالهمم يكون الحب للوطن والحق: “وصرتُ أبذل جهد الحبّ

بالهمم”.

يا وحدنا.. نداء صرخه بألم القائد الشهيد أبو عمار، وها هي الشاعرة تصرخه برمزية عن شعبنا فتقول: “إنّي وحيدةٌ في الحرب، لا شيء يعوّضني”، والأرواح تتألم ولا تسمع سوى الكلمات ولا ترى أفعال فكأنها تعيد المثل القائل: “أسمع جعجعة ولا أرى طحنا”، فتصرخ: “وهل تُجبر هشاشة الرّوح، بوطنٍ مُنهدمِ؟!”، وتواصل شاعرتنا اسقاط فكرة الأميرة وعلي على نصها المتميز فتقول: “ما توسّلت من المجهول أمنيةً! لكنّي تعثرت بكَ” وهنا الاشارة للمقاوم بعد فترة طويلة من الهدوء النسبي وطول الانتظار، وهذا ما نلاحظه بكلمة “تعثرت” والتي تشير إلى لحظة مفاجئة غير متوقعة، فلم يكن هناك توسل للنصرة من مجهول، ونراها تصف لحظة التعثر بالقول: “فاضطرب النّبض، واحتسب القلب، وامتلأ الدّمع في فمي!”، وهنا ننتبه لامتلاء الدمع بالفم فهي لوحة مرسومة بالكلمات تمثل أمهات الشهداء وهن يطلق “زغاريد” الوداع للشهداء بدون بكاء ولكن الدموع هي التي تملأ الفم وتطلق “الزغاريد”.

حين تجددت المقاومة وشاهدنا كما الشاعرة نماذج هائلة من البطولات قالت: “والتقينا.. والتقى الحزن مع نداء الحبّ فاستقام”، فكان الحزن مع الحب للوطن فاستقام الفكر واستقامت المسيرة بعد عناد الحلم والإصرار عليه: “فلا تتقوّم الأحزان إلّا بعناد الحلمِ”، وعندها كان لحظة مختلفة “وتعانقنا..”، وهذا العناق ترك في المسيرة علامتين فارقتين في تاريخ شعب منقوش بالدماء وهما: “شقّ العالقون طريقهم” نحو الحرية والمجد، والثانية “وعاد المتخاصمون أصدقاء” فلم يبق مجال لبقاء الخصام الفكري وأزالت البندقية كل أسباب الخصام، ففي مواجهة الاحتلال الذي كان يظن المقاومة حلم جرى وأده وسراب بقيعة “صدق السّراب وكذبت الحقيقة”.

وبعد أن عاد المقاوم عملاقا من جديد وصفت الشاعرة الحالة بعبارات لها معاني كبيرة من الأمل والتفاؤل فتقول: ” وعاد الخراب دون أخطاء تراقصنا، وتسلّق الأوركيد نوافذ الانتظار، وغسل البياض زجاج البكاء”، فكانت النتيجة: “تعايشنا وانتهى الأمر”، وبعد التعايش تنطلق البنادق “إلى حربٍ وموتٍ وتعوّد”، ورغم كل الدمار “رغم كلّ شيء، رغم الفقر”

وحجم الشهداء والجرحى والجوع والعطش لم تحن أمة العرب والاسلام ولا الجيران بينما “كانت الجبال حنونةً علينا”، وكان الحب ملجئنا ” فالحب فيها كان قصرنا الوحيد، فنحن في مواجهة الظلم والعدوان والطغيان “لا نملِك إلّا التّمرد”، حتى لو أن التمرد أدى إلى أنها “جفّت الجداول عن السّنابل”، ولم يبق لنا إلا الحب “فالحبّ منازل!”، وتحت النار والقصف “تعانقنا في لحظةٍ وتركنا الجدال”، وفي تلك اللحظة “تراقصنا كرامةً للاستقلال”، حلم كان “في فضاء الخيال”، وإن إنتهت رواية “نينو كبياني وعلي خان وذهبت “كرامةً للرّيح” ولم يبقى منها الا كتاب وفيلم وتمثال، فحلمنا بالحرية والاستقلال يخطو نحو التحقق ولن ينتهي “بنا الأمر إلى قصّةٍ ومزارٍ وتمثال”.

سنلاحظ أن الشاعرة في نصها لم تورد اسم الأميرة ولا اسم عاشقها إلا في العنوان، فكما اشرت في البداية أن الكاتبة اعتمدت الرمزية لاسقاط الرواية على حكايات شعبنا الفلسطيني، فكانت فلسطين هي المعشوقة وشعبنا هو العاشق، في نص تميز بتكثيف اللغة وقوتها رغم طول النص عما اعتدناه من نصوص الشاعرة قمر عبد الرحمن، واستنطاق حكاية خيالية أقرب للأسطورة، لتروي حكاية أخرى هي حكاية شعب ومقاوم وحلم حرية.

“31”

رسالةٌ من الأميرة نينو كيبياني إلى علي خان!

قمر عبد الرحمن

كثر الرّماة يا حبيبي فكن أمامي! أظنّ أنّ مشاعري على مرمى قنصة!

هل ينقص بالمبادرة قدري؟ ربّما.. ففي مدينتي ومعتقدي ألف غصّة!

لا ذنب للشّمعة أن تذوب كلّ مرّة؟ لولا أنّني أريد أن أمنح اللّيل فرصة؟

تكفينا لحظة.. تكفينا لحظةٌ يا حبيبي

ويكفي في بعض الأحيان أن يتحد النّداء مع صمت الحسرة!

اطلب النّصر في الحرب،

حتّى لو تساوى الوجود مع العدمِ

لكن.. كيف تجرؤ وتطلب النّصر في الحبّ؟!

ما رأيت يومًا محبًّا غير مُنهزمِ!

قهرتُ فيَّ قهر الأعادي،

وصرتُ أبذل جهد الحبّ بالهمم

إنّي وحيدةٌ في الحرب، لا شيء يعوّضني

وهل تُجبر هشاشة الرّوح، بوطنٍ مُنهدمِ؟!

ما توسّلت من المجهول أمنيةً! لكنّي تعثرت بكَ

فاضطرب النّبض،

واحتسب القلب،

وامتلأ الدّمع في فمي!

والتقينا.. والتقى الحزن مع نداء الحبّ فاستقام

فلا تتقوّم الأحزان إلّا بعناد الحلمِ

وتعانقنا..

وشقّ العالقون طريقهم

وعاد المتخاصمون أصدقاء

تعانقنا..

وصدق السّراب وكذبت الحقيقة

وعاد الخراب دون أخطاء

تراقصنا..

وتسلّق الأوركيد نوافذ الانتظار

وغسل البياض زجاج البكاء

تعايشنا وانتهى الأمر

إلى حربٍ وموتٍ وتعوّد

كانت الجبال حنونةً علينا

فالحب فيها كان قصرنا الوحيد

رغم كلّ شيء، رغم الفقر

“مرض العصور الموحّد”

تعايشنا

فالعادات عاهاتٌ يا حبيبي،

ولا نملِك إلّا التّمرد

لو تعلم الأديان، كم ذوبنا الكتمان!

وهان الوداع

من ذنوب الأديان وعظيم المجاهل

هان الوداع وانقطعت الرّسائل

وجفّت الجداول عن السّنابل

وانتهت قصّة الحبّ الكبير،

فالحبّ منازل!

تعانقنا في لحظةٍ وتركنا الجدال

تراقصنا كرامةً للاستقلال

كرامةً للرّيح في فضاء الخيال

وانتهى بنا الأمر إلى قصّةٍ ومزارٍ وتمثال.

الكاتب الإعلامي زياد جيوسي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *