(مع الكليم) للقاص عبد الصمد الشويخي

مع الكليم انظر لترى بطش فرعون وجبروته كيف ذهب سدى أمام أًغرابٍ ضعفاء من بني إسرائيل لا يملكون لأنفسهم ضرًا ولا نفعًا؟!

فمهما بلغ ضعفك ضع خطتك المحكمة ونفِّذها بدقة وستنتصر فبعض النَّاس إن رأوا ضعفك لن يفلتوك حتى يقتلوك أو يثبتوك ولن يرأفوا بحالك، ولن يثنيهم عن إهلاكك ضعفك الواضح لهم فذرهم في طغيانهم يعمهون… فمن يحبك حقًّا سينقب جدران ضعفك بإبرته حتى يصنع كُوَّةً يمرُّ من خلالها الضوء؛ لينير لك الدَّرب، ويغمرك عبرها الأكسجينُ الَّذي تتنفسه سيهديك قبلةَ الحياة حينما تغرق، وسيعمل على إنعاشك الرِّئوي حتى لو كان يرى شفتيك قد تلونتا باللَّونِ الأزرقِ لن يفقدَ الأملَ سيصنع كلَّ ما بِوُسْعِهِ سيؤازرك بصوتٍ متقطع منتفضٍ: أنا معك تشبث بالأمل… سيكون عكازك الذي تستند عليه لن يتركك تواجه مصاعبك وحدك فحين تسمع قوله تعالى :

( وأصبح فؤاد أمِّ موسى فارغا وإن كادت لتبدي به لولا أن ربطنا على قلبها) ستسأل نفسك؟!

لماذا قال الله (فارغا) ؟! ولعلَّ الجوابَ أنَّه عزَّ وجلَّ قد صوَّرَ الفؤادَ بالكوبِ قد يكون ممتلئًا وقد يفرغ ممَّا به من شَرَابٍ؛ فالخوف والحزن يشعران الإنسانُ بالضِّيقِ الشَّديدِ؛ حتَّى يجفَّ ريقه ويتشقق حلقه، ويعاني آلامًا مبرحة تظهر واضحةً على ملامحه وتجاعيد وجهه، ويلتصق فمه بحلقه من شدَّة الاحساس بالقلق والعجز والضَّجر كأنَّه العطشُ المميت القاتل، وكلما اشتدَّ عطش الإنسان ازداد بحثه عن الماء كهاجرَ حين جدَّت في بحثها عن الماء، وسعت ما بين الصَّفا والمروة أشواطها السَّبعة؛ لينزل جبريل، ويضرب الأرض بجناحه؛ فيتفجر ماء زمزم ماءً معينًا كذلك أم موسى كادت أن تظهر أمر ولدها من شدِّة جزعها وهلعها وخوفها واضطرابها وهذا حال المرأة حينما يلحُّ عليها الحنينُ فلا تطيقُ له صبرًا، وتكاد أن تظهره على مرأًى ومسمعٍ من النَّاس تصرخ وتقول :إني أحبُّ فلانًا؛ فتكونَ كمن يبلغ به العطشُ مبلغه، ويَجِدُّ في بحثه عن الماء فلا يجدُّ إلا كوبًا فارغًا، ويمسكه بيديه يهزه ويَرُجُّهُ بحثًا عن قطرةِ ماءٍ حينها يعرف أن قطرة ماء تساوي حياة… كذلك من يفتقدُ حبيبًا غائبًا يأنس لوجوده، ويسعد بقربه، لكنَّه فجأةً لا يراه ولا يسمعُ صوته سيجلسُ ساعاتٍ طوالٍ منتظرًا لسماعِ صوته أو رؤية رسالةٍ منه، والقلب يشبه الكوبَ الفارغَ فحينما يشتعل بداخله الشَّوقُ تتمزَّقُ نياطه، ويصعب كسره أو جبره كالكوبِ الزُّجاجي حينما يُكْسَر لا نستطيع له رتقًا ولا تقويمًا ولا تجميعًا كذلك قلب المحبِّ يبدو كالبلُّور شفَّافًا رقيقًا نكاد نرى أوردته وشرايينه، ونسمع سريانَ الدَّمِ فيه كما نرى الشَّرابَ داخلَ الكأسِ، ونسمع صوت خرير الماء، وَجريانه بداخله لكن من يصلح الحال ويعدل المائل؟!

من الذي ربط على قلبها؟!

عندما (قالت لأخته قصيه فبصرت به عن جنب وهم لا يشعرون) كذلك كلّ حبيبٍ يبصر من يحبُّه عن جُنُبٍ والنَّاس مشغولون بدنياهم لا يشعر به أحدٌ… كانت تتتبع أخباره، وتتسمع أسمارهم عنه، وتذهب بجرَّتها؛ لتملأ الماء من النَّهر بالقرب من القصر بعد أن ألقته بيديها في اليم، وهو بداخل صندوق خشبيٍّ محكم الإغلاق، فتعثرَ عليه أخت فرعون، وتأخذه لأخيها بعد أن تنتشله من الماء؛ فيقرِّر فرعون قتله، وتقرر امرأته أن تستبقيه قائلة لزوجها وزملائه :(عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدًا) … رغم كونه أجدع الشعر أفطس الأنف أسود اللون غليظ الشفتين مشقوقهما فكلُّ الأمور هنا تستجلب الكره وتدعو للاشمئزاز وتدعو للضيق إلا أن الله ألقى محبته في قلوبهم ليصنعه على عينه، ويكلأه برعايته.

إذن فليست هناك أسبابٌ واضحةٌ، ولا مقاييس ظاهرةً لحبٍّ أوكره لشخص، فالقلوب بين أصبعين من أصابع الله يقلبهما كيف يشاء؟! يَسْعَدُ بعضُها بقربٍ ووصلٍ، ويشقي بعضها ببعدٍ وهجرٍ، وقد يذهب الإنسان لآخر الدنيا رغبةً في لقاء شخصٍ يألفه أو رؤية شيءٍ أحبَّه وقد يتحملُ ذلَّ العبوديَّة والقهر وخشونة الحياة وجفاف الصحراء القاحلة وطول المسافات والتعب والجهاد، والحر ابتغاء الذَّهاب لمكانٍ يحبُّه أو المكوث والإقامة بأرضٍ تربطه بأهلها روابط ودٍّ أو قرابةٍ أو نسبٍ، أومصاهرةٍ.

وقد يتحمَّل المشاقَ، وما لا تطيقه شمُّ الجبال من عناءٍ ومصاعبَ ومتاعبَ من أجل البقاء قريبًا من أناسٍ أحبَّهم … لكنَّ لله في خلقه شؤونًا وله في قضائه تدبيرًا وتمكينًا، (وألقيت عليك محبة مني).

ها هما الزوجان يتناقشان سنقتله… سنربيه… هو صغيرٌ لا يعرف شيئا، ولا يدرك أمرًا عندما اقتلع شعرة من ذقن فرعون وكان الكهنة قد تكهنوا له بأن هلاكه على يد طفل من بني إسرائيل وعلامة ذلك أنه سيقتلع شعرة من ذقنه قرَّر قتله فقالت له زوجته لتصرفه عن الأمر إنَّه لا يميز لصغره بين التَّمر وبين الجمر وجيء له بجمرة وتمرة؛ فالتقم الجمرة؛ ليصبح بعدها لثغًا وينجو من بطش فرعون وفتكه ولله في الأمر حكم جلية ونعم لا يدركها إلا أرباب الأفهام والعقول المستنيرة.

صعوبات كثيرة تقابل وليدَ بني إسرائيل وأمه وأخته لكن من يذلل الصعب وييسر العسير من الأمور؟!

من يقلب الموازين ويغير الأحوال ويبدِّلها؟!

من يضعْ أقواما ويرفع آخرين؟!

له أمور يبديها ولا يبتدئها (كل يوم هو في شأن)

من جعل الطريد نبيًّا والسجينَ وزيرًا؟!

من جمع الكليم بخطيب الأنبياء؟!

من برأ موسى ممٌّا رماه به بنو إسرائيل من عجزٍ وأنزل في الكتاب أنه كان عنده وجيهًا؟!

من فلق البحر لموسى وجعل كل فرق كالطُّود العظيم؟!

من ألقى حبَّ القوىِّ الأمين في قلب ابنة شعيب على ما رأته عليه من حالٍ لا تحمد، وعيوبٍ لا تشكر غفلت عنها جميعًا، ورأت بعين قلبها فقط قوته وأمانه؛ فعين المحب عن كلِّ عيبٍ كليلةٍ لا تبدي المساوئ ما به من فقرٍ وضيق ذات يدٍ واغترابٍ وتلعثمٍ ولثغٍ وتعبٍ وإرهاقٍ وثيابٍ باليةٍ وحذاءٍ ممزَّقٍ، وملامحَ خِلْقِيَّةٍ تأنف العين عن النَّظر لها بل تبغضها، وتكره صاحبها بمجرد النظر؟!

من ذا الذي أعاده إلى مصر مرة أخرى نبيَّا ومعه هارون أخيه وزيرًا من أهله؟! ليشدَّ به أزره (كي نسبحك كثيرًا ونذكرك إنَّك كنت بصيرًا) إذن هي مشاركة لا مغالبة (هو أفصح مني لسانًا) يذكر فضائل أخيه ولا يستأثر بالأمر دونه وها هو طوفان السَّحرة وجمع الناس يوم الزينة لم يرعبهم ما جمع لهما فرعون بل مكَّن لهم في الأرض وآمن السحرة كلُّهم أجمعون وأُلْقِىَ السَّحرة ساجدين قالوا: (آمنا برب العالمين رب موسى وهارون)

بأدواتك البسيطة مع اليقين ستهزم جحافل الشِّرك والطُّغيان فلا تقلق وخذ بالأسباب فربما انقلب السِّحر على السَّاحر مع أنّ َأنَّهم سحروا أعين الناس واسترهبوهم، فكم من النَّاس من يخدعك بالمال ويستهويك بعذب الكلام؟!

ومن يرهبك بقوَّته وبطشه لكنَّك لو امتلكت اليقين لدانت لك الجبال، فموسى مع الخضر وسورة الكهف اذكر إيجابيات غيرك، ولا تخش المنافسة من أحدٍ؛ فنفس أدوات الغرق قد تكون هي نفسها أدوات النَّجاة (الماء) أغرق الله فيه فرعون الملك ومنه أنجى موسى النبي.

التَّدليل الزائد للطفل فلو دلَّلَت أمُّ موسى وليدها للحقِّ بقتلى بني إسرائيل من الصبيان والمواعيد يذبِّح أبناءهم، ويستحيي نساءهم وفي ذلكم بلاءٌ من ربِّهم عظيم.

(عفوا لقد نفد رصيدكم)

فرعون كان يحبُّ موسى فأفلته من عقوبة جريمةِ القتل غير العمد ولكن لمَّا نازعه موسى الملك والحكم حنق عليه فجمع جنود الأرض لقتله.

تغير القلوب وتبدل المشاعر من أقصى اليمين لأقصى اليسار… الدَّار ليست بالبناء جميلةٌ إن الدِّيار جميلة بذويها فرغم من طيب العيش في أرض مدين لم ينقطع حنين موسى لمصر يومًا وقفل عائدًا إليها في أول فرصة واتته مع علمه بما ينتظره فيه من مصيرٍ محتومٍ اليوم ننجيك ببدنك لنجعلك لمن خلفك آية أنجى الله جثة فرعون لتكَن عِبْرَةً لكلِّ ظالمٍ مهما بلغ جبروته هذه نهايتك، وذلك حتفك المنتظر فلا تغتر بسلطةٍ ولا بمالٍ ولا بعلمٍ ولا بعزوةٍ ولا بجندٍ، ولا بحشَودٍ يلتقي بالخضر؛ ليتعلم منه وهو النبيُّ يحاول أن يكتُمَ غيظه ويصبر…يسألُ؛ ليتعلمَ أكثر

ويدرك، أنه فوق كلِّ ذي علمٍ عليمٍ.

القاص عبد الصمد الشويخي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *