مقاربة نقدية للكاتب أحمد الفهيري للقصة قصيرة جدا بعنوان “هوس”للقاص نزار الحاج علي

هوس
في نهاية زقاقٍ مظلمٍ يقف شابٌّ بلا اسمٍ أمام محلّ ساعاتٍ، هناك عرض عليه البائعُ أن يشتري ساعةً رمليةً.
تسليته الوحيدة في هذه البلدة الصغيرة كانت مراقبة حبات الرمل وهي تسقط ببطءٍ شديدٍ.
وبمرور الوقت أصبح الشابُّ مهووسًا لدرجة أنه أمضى ساعاتٍ طويلةً وهو يحاول أن يفهم الرسائل المخبأة فيها وهي تتدفق:
صرخاتٌ عجيبةٌ، ضحكاتُ أطفالٍ، أصواتُ عبيدٍ، عواءُ ذئابٍ، غبارُ جنيّاتٍ، إلى أن شاهد حبةَ رملٍ تتدفق ببطءٍ كانت فارغةً تمامًا من أيّ قصةٍ.
يشعر الشابُّ ببرودةٍ تتردد داخل روحه وهو يرى حبةَ الرمل الفارغةَ، تسقط وهي محاطةٌ بجدرانٍ ضيّقةٍ


القراءة


العتبة :هوس : من معانيه في معجم المعاني الجامع : جُن عشقا يه ، وقد جاء اسما مفردة نكرة معبرا عن حالة نفسية ، وهو عنوان موح ومحفز وذو حمولات دلالية متسق مع المتن ، الا أنه لا يخلو من مخاتلة حيث ان مقاصد القصة تتعدى وتتجاوز هوس الشخصية الرئيسية فالعنوان ليس مطلوبا منه الفضح والايضاح او التعمية والتلغيز بل يعبر عن المتن في ومضة قادحة تشكل جوهر المتن .


دشن القاص نصيصه باستهلال فضائي مكاني نكرة( في نهاية زقاق مظلم) من اوصافه الظلمة ومحدودية مخارجه ومداخله (زقاق)، مكان يبدو في الظاهر مفتوحا ولكن بما اضفي عليه من اوصاف صار شبه مغلق ، والانغلاق في هذا النص يتعدد في عدد من مفاصله بداية من الزقاق الى المكان الذي يمارس فيه عملية مراقبة حبات الرمل ولا اخاله الا بيته واخيرا الوعاء الذي يحتوي حبات الرمل (تسقط وهي محاطة بجدران ضيقة) .
الشخصية الرئيسية شاب بدون اسم ،تنكير ايضا بما انه غير معرف وفوق ذلك لا يحمل اسما ،والاسم من مقومات الشخصية وهذا في الحقيقة يتماشى مع متطلبات الوجيزة التي تميل إلى تنكير الشخصيات الرئيسة بدل تعريفها بأوصافها وقيمها وأحداثها بشكل مسهب ومطنب وموسع.لذا، يتناسب مقياس التنكير مع بعض المقاييس الأخرى المنسجمة، مثل: مقياس الانتقاء في الأوصاف، ومقياس التكثيف، ومقياس التسريع، ومقياس الحذف والإضمار، ومقياس الاختزال،ومقياس التراكب… ثم ان التنكير قد يحمل في طياته تعميما الا يمكن ان يكون هذا الشاب انا او انت ؟…
يقف في نهاية زقاق مظلم ، يعرض عليه بائع الساعات شراء ساعة ,واي ساعة يا ترى ؟ من بين انواع الساعات يقدم له ساعة رملية وما ترمز اليه من معاني القدم واستحضار التاريخ، والساعات آلات لقياس الزمن وهي حاملة لدلالة رمزية . هذه الالة قديمة جدا يذكر انها كانت معروفة لدى السوماريين اي 3300 ق م مشهد غريب وغامض حقا يدعونا الى البحث في مجاهل معانيه وانارة تجاويفه المعتمة . يتعلق الشاب بهذه الالة ويصبح مهوسا بها ، يراقب تدفق حبات الرمل وهي تنسكب من فوق الى تحت ..


ثم يأتي الحدث القادح والذي يخرجنا من العالم الفيزيقي الى العالم الميتافيزيقي ،عالم الفنتاستيك هو سماعه حبيبات الرمل وهي تروي التاريخ وما مر عليها من أحداث وحوادث … ،( صرخاتٌ عجيبةٌ، ضحكاتُ أطفالٍ، أصواتُ عبيدٍ، عواءُ ذئابٍ، غبارُ جنيّاتٍ..) انه التاريخ الانساتي في خلاصته ..والقاص في توظيفه لهذه الالة العارضة لاحقاب من الزمن يذكرنا بآلة أخرى شاهدناها في الافلام القديمة la machine à explorer le temps والتي تمكن الانتقال الى الماضي والمستقبل ,لكن ما استرعى انتباه بطل قصتنا وشده تلكم الحبة الفارغة من كل قصة تتسبب له في الشعور ببرودة في الروح… تسقط الحبة الفارغة وهي محاطة بجدران ضيقة ، فما الذي جعله يحس بهذا الشعور يا ترى ؟
الاحالات والرموز:
الشاب النكرة يرمز الى الكائن السلبي .. المنفعل .. الذي يقتصر دوره على الفرجة والمراقية .. ويمكن تأويله كدلك الى الزمن او الحياة التي تراقب توارد الاحداث والحضارات .
حبات الرمل : ترمز الى الحضارات وحقبات التاريخ المتعاقبة ,,
الحبة الفارغة :شعور الشاب ببرودة تتردد في روحه عند مشاهدة الحبة الفارغة دليل على تأثره وانفعاله وما تاثره وانفعاله الا لوجود علاقة عاطفية قوية بينهما ,, هل هو عصره أم عصر أسلافه؟
الجدران الضيقة :هي كل العوامل والظروف المعيقة ( الذاتية والموضوعية) للمساهمة في الحضارة الانسانية ..
الافعال : استعمل القاص الفعل الماضي والفعل المضارع ،وقد استهل الكاتب قصته بفعل مضارع (يقف ) ، كما ختمها ايضا بفعل مضارع (تسقط ) عدد الافعال المستعملة كان (15) 13 في صيغة المضارع و(3) منها فقط كانت في صيغة الماضي ، وزمن المضارع كما نعلم يدل على الاستمرارية والتواصل ، مما يرمز الى قصدية الاسقاط على الحاضر ,,,
تركيبيًّا: قُدِّم النص في قالب إخباري؛ رغم وجود جملٌ إنشائية فقد كانت الجمل الفعلية في صيغة المضارع هي المساهمة في نمو الحركة وتطور الحدث ..

من الناحية السرديَّة ليس للسارد حضورٌ في النصِّ؛ فهو يتحدَّث بضميرِ الغائب الذي ينوبه هنا “الشاب” هذا الغيابُ يجعل الرؤيةَ من الأعلى هي المهيمنةَ على الحَكْي، فمن مظاهر هاتِه الهيمنةِ التصرُّفُ في تقديم الأحداث، والاطِّلاع الشامل عليها ,
النهاية : مثلما كان الاستهلال سرديا كانت النهاية سردية ايضا غير انها لم تكن صادمة او مدهشة ولكنها كانت منطقية جدا وفي سياقها السردي ،وكأن القاص هنا يقدم مثالا عن عدم لزوم النهاية الصادمة او المدهشة في القصة القصيرة جدا لنجاحها ـ فقد تكون العناصر الصادمة مُسالة ومبثوثة في المتن ..


الكاتب أحمد الفهيري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *