ظلمة مؤقتة
انقطعت الكهرباء بضع ساعات، فتعطلت الحياة وتوقف العمل، فكيف لو استمر انقطاعها حتى المساء. كيف لو استمر انقطاعها ما بقي لنا من أعمار؟ إذا لتوقفت الحياة العصرية، وصرنا نتخبط في كل شيء. إذا اصطدمت بما هو أقوى منك حطمك، وإذا اصطدمت بما هو أضعف منك حطمته. هذا عن ظلمة واحدة في الدنيا تدوم لساعات قليلة، فكيف بظلمات يوم القيامة؟
خطورة الظلم
الظلم وهو في أبسط تعريف له: التعدي على شرائع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وعلى حقوق الآخرين. عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة، حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء”. وعن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى شاتين تنتطحان، فقال: “يا أبا ذر هل تدري فيم تنتطحان؟ قال: لا. قال: ولكن الله يدري، وسيقضي بينهما يوم القيامة”. الشاة العجماء والتي يقال لها يوم القيامة كوني ترابًا قبل ذلك يقتص الله منها أو لها. فما بالك بالإنسان والذي مصيره إما إلى جنة وإما إلى نار؟إن الظلم ذنب عظيم، وجرم خطير.
الرفق بالظالم
أدعوكم جميعًا إلى أن ترفقوا بالظالم، حتى ولو تعرضت للظلم على يديه، ارفق به وارحمه؛ فإنه في وضع لا يحسد عليه. إنه لا حول له ولا قوة، لقد وضع الظالم نفسه بسبب ظلم وتجبره وتعديه في وضع عصيب. ولننظر ماذا يحل بالظالم في الدنيا وفي الآخرة. أولًا: الظالم لا يحبه الله قال تعالى ” “والله لا يحب الظالمين”. الظالم لا يهديه الله قال تعالى: “والله لا يهدي القوم الظالمين”. ثانيًا: الظالم محروم من الفلاح في الدنيا وفي الآخرة، قال تعالى “إنه لا يفلح الظالمون”. الظالم لا يغفر الله له، قال تعالى “إن الذين كفروا وظلموا لم يكن الله ليغفر لهم”. ثالثًا: الظالم ملعون، قال تعالى: “ألا لعنة الله على الظالمين”. فهل هناك شيء يستحق أن تنال بسببه اللعن والطرد وأن تحرم من الرحمة والمغفرة والهداية؟
جريرة الظالم
ولعلم تتساءل معي: ماذا فعل الظالم حتى استحق بغض الله له؟ ونجد الجواب في حديث المفلس، والذي يرويه لنا أبو هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ عليه السلام، قَالَ: «أَتَدْرُونَ مَن الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا يَمْلِكُ دِرْهَمًا لَهُ، قَالَ: «الْمُفْلِسُ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصِيَامٍ وَصَلَاةٍ وَزَكَاةٍ، وَيَأْتِي قَدْ قَذَفَ هَذَا، وَشَتَمَ عِرْضَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا، فَيَقْعُدُ فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ الَّذِي عَلَيْهِ مِنَ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحْنَ عَلَيْهِ، ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ».
في هذا الحديث اعتمد سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عنصر التمثيل والتجسيد في توصيل الصورة للمتلقي إذ إن هذا المدخل هو المدخل الصحيح في عملية الإقناع بشيء غيبي لا يدرك إلا من خلال الصورة. وهنا كان لابد من تفعيل الآليات والوسائل المقنعة للشخصيات ذات الطابع البصري. بافتراض أن المتلقين هنا أمام هذا المفهوم الجديد تحولوا جميعًا إلى النمط البصري، وأمست وسيلة التوصيل الفعالة لهم جميعا هي الأسلوب القائم على الصور والمشاهدات.
من المفلس؟
بدأ النبي صلى الله عليه وسلم بطرح سؤال على الصحابة الحاضرين لمجلسه المبارك. كان سؤال النبي من المفلس؟ وأجاب الصحابة الإجابة التقليدية التي يعرفونها: المفلس من لا درهم له. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يغير لهم هذا المفهوم، ويزيل تلك القناعة عن تعريف المفلس، وأراد صلى الله عليه وسلم أن يضيف إليهم مفهومًا جديدًا ومغايرًا للمفلس، وينقلهم إلى أمر غيبي لا عهد لهم به، ولذلك في محاولة إقناعهم وتثبيت المفهوم الجديد للمفلس استخدم صلى الله عليه وسلم أسلوب التمثيل والتجسيد، حتى ليخيل للمتلقي سامعًا وقارئًا تلك المشاهد الأخروية والغيبية، ويتمثلها أمام ناظريه وكأنها رأي العين، فيرى الظالم وقد أحاط به خصماؤه يوم القيامة كل يريد أخذ حقه منه، فهذا يمسك بيده، وهذا يتعلق برقبته، وهذا يمسك بقدمه يجره إليه جرًّا، هذا يقول يا رب ظلمني فغشني، والثاني يقول ظلمني فأكل مالي، والثالث يقول ظلمني فاغتابني، والرابع يقول ظلمني فشمت فيَّ، ونرى الحسنات وهي تتطاير من صحيفة الظالم المسيء الواقع في الأعراض المرتكب للمظالم، يراها وهي تتطاير من صحيفة حسناته إلى صحائف حسنات الآخرين. ثم نراه وقد فنيت حسناته ولا يزال مدينًا ببعض الخطايا لهؤلاء، ولا يزال المظلومون متعلقين برقبة الظالم؛ يريدون القصاص منه. وهنا يتم تبادل الأدوار، فيحمل من صحائف خطاياهم، إلى صحيفة خطاياه، فتثقل كفة سيئاته، فيطرح هذا المفلس من الحسنات بسبب ذنوبه وخطاياه هذا الظالم لنفسه، في نار جهنم. والحديث بهذا التصوير بشَّع من خطورة الوقوع في الأعراض والظلم والتعدي على الآخرين. وغيَّر مفهوم الصحابة عن المفلس، فالمفلس من أمة النبي صلى الله عليه وسلم ليس من لا يجد مالا في الدنيا ولكنه من أضاع حسناته التي عملها بسبب خطاياه التي ارتكبها، فتذهب جميع حسناته حقوقًا للآخرين وقصاصًا منه لما ارتكب من جرائم في حق الغير في الدنيا.
قصاص الله من الظالم
أرأيتم كيف يقتص الله من الظالمين يوم القيامة؟ وكيف تضيع عليهم أعمالهم الصالحة وتذهب حسناتهم لكل من قاموا بظلمهم؟ هذا الظالم ظلم عباد الله بأن تعدى عليهم بالضرب، أو تعدى عليهم بالشتم، أو تعدى على أموالهم فأكل مالهم بالغش أو بالتزوير أو بالحرمان من حقوقهم كهذا الذي أحل لنفسه ميراث أخته وإخوته، كهذا الذي أكل أموال اليتامى ظلمًا، كهذا الذي ماطل في سداد ديونه، وأكلها. كهذا الذي هتك عرض فلان، ووقع في عرضه، وذكره في غيبته بسوء، ورماه بالبهتان كهذا الذي سخر منك وجرح كرامتك، لن يتركه الله وسيقتص لك منه يوم لا دينار ولا درهم، وإنما القصاص بالحسنة والسيئة وهي العملة الوحيدة للقصاص يوم القيامة.
حقيقة الظلم
ليس هناك ظلم صغير وظلم كبير، الظلم كله ظلم بكل صوره وألوانه بشدته وضعفه كله ظلم، والظلم ظلمات يوم القيامة. يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه، فقد أوجب الله له النار وحرم عليه الجنة. فقال رجل: وإن كان يسيرًا يا رسول الله؟ قال: وإن كان قضيبًا من أراك”. لو كانت مظلمتك لأخيك تساوي عود سواك فقد أوجب الله لك النار وحرم عليك الجنة.
رسائل للظالم
الرسالة الأولى: أيها الظالم قد تجد أنصارًا وأعوانًا لك في الدنيا، يساعدونك على ظلمك، ويقرون لك به، ويفتون لك بحله، ويزينون لك الباطل، ويغرونك به؛ فتأكل الحقوق بحيل المحامين وتلاعبهم بالقوانين أو بشهود الزور. أما في الآخرة، فأول صدمة تتلقاها “وما للظالمين من أنصار” هؤلاء الذين أكلت الحرام من أجلهم زوجة كانت أو أبناء، لن ينفعوك يوم القيامة، ولن يحاسبوا عنك يوم القيامة، وهنا نرى الظالم يوم القيامة كما يحكي عنه ربنا ” ويوم يعض الظالم على يديه” ولكنك ندمت حيث لا ينفع الندم.
الرسالة الثانية: أيها الظالم، هناك دعوة تطارك ليل نهار، هي دعوة المظلوم، حتى ولو لم يكن مسلمًا. يرفعها الله فوق الغمام، ويفتح لها أبواب السماء، ويقول لها: وعزتي وجلالي لأنصرنك ولو بعد حين”. ولله در الشاعر:
لا تظلمن إذا ما كنت مقتدرًا فالظلم آخر عقباه إلى الندم
تنام عينك والمظلوم منتبه يدعو عليك وعين الله لا تنمِ
أيها الظالم، إن للمظلوم ربًا قادرًا سميعا بصيرا عليما خبيرًا تكفل بنصرة المظلوم منك واقتصاصه منك له ولو بعد حين. غير ما أعده الله للظالمين يوم القيامة.
الرسالة الثالثة: أيها الظالم، تحلل من مظلمتك قبل أن يأتي يوم لا دينار ولا درهم، فلن ينفعك أحد وليس لك يوم القيامة من نصير، فالدنيا لا ولن تغني عن الآخرة شيئًا؛ فتحلل من الحرام في الدنيا قبل أن يقتص من حسناتك في الآخرة.
د. سعيد محمد المنزلاوي