شدت دلوعة السينما المصرية –كما يطلق عليها نقاد الفن السابع- الراحلة (شادية) (*) في سنة 1962م بأغنية خفيفة ظريفة مرحة، تشبه روحها الهائمة العاشقة، الكلمات للعبقري (مرسي جميل عزيز) واللحن للعملاق (كمال الطويل) ومطلعها:
“وحياة عينيك وفداها عينيه.. انا بحبك قد عينيا “
وظف المخرج الكبير (فطين عبد الوهاب) هذه الكلمات ضمن مشاهد فيلم (الزوجة 13) الذي ألفه (أبو السعود الإبياري) وتدور أحداثه في إطار كوميدي حول مراد (رشدي أباظة) مدير شركة غزل يحب الشهوات وله (12) زيجة سابقة حتى يتعرف على (عايدة) (شادية) فيتزوج منها ويخفى عليها نزواته السابقة ولكن إحداهن تبلغها بذلك فتبدر عايدة خطة للانتقام من مراد الذي وقع في حبها بالفعل.
ما يهمنا في كلمات الأغنية الجزء الذي يصور خصام ومراوغة البطلة حين قالت:
” عايز تخاصمنى خاصمنى .. بس إوعى تبعد عنى
عايز تصالحنى تعالى.. قبل الشوق ما يجننى”
إنَّ رجل الأعمال مراد سالم الذي يمتلك مصنعًا للنسيج ورثه عن عائلته، خلال زيارته للإسكندرية وقع في حب فتاة جميلة أنيقة رشيقة لأب وزير سابق (مفلس)، لكنها ما تلبث أن تكتشف الوجه العابث لمراد سالم، حينما يأتيها نبأ من إحدى عشيقاته التي وعدها بالزواج أنه قد تزوج اثنتي عشرة مرة من قبل، وإنه يتعامل مع الزواج بنفعية وانتهازية بالغة.
وبلغة (شوق ولا تدوق) عاملته (عايدة) بحرص شديد خيفة أن يتركها فيخسر والدها وظيفته المرموقة، وتخسر هي الشاب الوسيم الغني.
ما فعلته (عايدة) مع (مراد) كفيل بأن يكرهها وينفر منها، لكنها كانت تراوغه مراوغة الانثى المحبة العاشقة الهائمة، فكل كلامتها وحركاتها تشهد بحبها له، بيد أنها أرادت أن تكشف له من جوانب المرأة مالا يرى.
(عاوز تخصمني خاصمني) الرغبة في الخصام قد تكون غير موجودة أصلا؛ فكيف يخاصم المرء نصفه الأخر الذي وجده بعد عناء البحث وفشل التجارب؟!
(بس اوعى تبعد عني) عدم وجود الخصام يستلزم عدم البعد، لكنه اعتراف بالحب عن طريق آخر، وكأنها تقول: إني أحبك فلا تفكر في الرحيل، ولو خاصمت!
إن (عايدة) بهذه الكلمات تذكرنا بالمثل الدراج ” لا بحبه ولا بقدر على بعده” معادلة صعبة فكت رموزها بحنين وشوق ودلع وخفة، خاصم براحتك يا (مراد) لكن لا تتركني وحدي؛ فأنا أحبك.
“عاوز تصالحني تعالى” الباب مفتوح والقلب سعيد والسماح متوفر، والنية صافية، والبضاعة لم يتلفها الهوى…
في الخصام تقول:” خاصمني” بلغة فيها الخصوصية والغضب والانكسار وخيبة الظن، وربما فيها التحدي والقدرة على جدال الخصم وتمكنها من قلبه.
وقولها: ” تعالى قبل الشوق ما يجنني” فيه لهفة وحنين وحب دفين، وأمل، فيه رحابة للكلمة ووداعة كوداعة الربيع، وشدو كشدو الحياة … فيه مشاعر الانثى بكل تفاصيلها.
وشادية – رحمها الله – لها مكانة في قلب محبيها عامة، وعندي خاصة؛ لأنها ممن شدت وتغزلت في اسمي حين غنت:
“لا ياسي أحمد لا ياحماده …أنا حبيتك حب عباده”
كانت عبقرية شادية وحسن اختيارها للكلمات أفضل بكثير من آهات نانسي وقهوتها وشبابها المراهقين، صدرت الأغنية سنة 2003م كلمات الأغنية للشاعر فوزي إبراهيم، والألحان لمحمد سعد وكلاهما لا يعد من كبار المؤلفين أو الملحنين، كما أنَّ كلمات الأغنية عادية جدا، لكن اللحن وحركة المغنية بعيونها الزرقاء، وفستانها الأسود القصير، ومشاهد الفيديو والإخراج مكنت الأغنية من الحضور أمام المشاهد.
“أخاصمك آه
اسيبك لا
وجوه الروح هتفضل حبيبى اللى انا بهواه….”
الخصام هنا غير الخصام هناك، فهي من تخاصم، وهي من تقرر المصالحة، وهذا الأمر كان منتشرا في بداية الألفية الثالثة كما سمعنا من شرين وقتها (.. إيه يعني غرامك ودعني
إيه يعني فرقني ولا ارجعلي
ليه فاكر إن الدنيا في بعدك
ما فيهاش ولا قابلك ولا بعدك
دانا بيك من غيرك مش فارقة
قدامك أهو لسة بغني..) الأغنية صراع وصراخ ، وشجار ، وضرب بالكراسي ، وقد أظهرت الدراسات الاجتماعية أن أكثر من نصف نساء مجتمع عربي يضربن بالحذاء وربما بالكرسي وبعض الثقافات المجتمعية العربية لا تنظر إلى الضرب على أنه ممارسة عنيفة بل تعتبره سلوكاً يعكس الشجاعة والحزم والقوة، إنَّ أغنية نانسي لم تصل ولن تصل لبراعة أغنية شادية ، فشادية أنموذج للمرأة العربية الأصيلة الجميلة الوفية المحبة العاشقة ، ونانسي أنموذج للمرأة في عصرها ، والتي لم نفطن أنها تحمل كل هذا السادية، رغم أنه كان من الواضح أنها تنتهي بمضاربة عنيفة بين الجالسين في المقهى بالكراسي لكن لجهلنا لم نفلح في تحليل إيحاءاتها ودلالاتها السادية والسلبية الخطرة على عقول النساء .
المتصفح لكثير من أغاني هذه المدة يلحظ هذا الكم الهائل من مشاعر الأنثى المغدورة التي تتحدث بلهجة التحدي، لكن هذه اللهجة ربما أكسبتها مفردات لامست القلب وهي تعيش مع صور حالتها النفسية لتخرج مالم تبح به وتسكت عنه.
لكنها افتقدت لمساحات أخرى من البوح، فقد أشبعتنا غضبا وألما، ونسيت أن خصلة شعرها مازالت في جيب إلياس فرحات الذي قال:
خصلة
عندما
لَم
وسأتلوها
_________________________________
(*) الفنانة شادية واحدة من ألمع نجمات التمثيل والغناء في مصر والعالم العربي، وشادية اسمها الحقيقي فاطمة شاكر، ووالدها هو المهندس الزراعي أحمد كمال شاكر، وقد اختلفت المصادر في تحديد سبب إطلاق هذا الاسم عليها، حيث قيل إن الفنان يوسف وهبي هو من سماها بهذا الاسم عندما شاهدها، وكان يصور في ذلك الوقت فيلما بعنوان “شادية الوادي”، وهناك من قال إن المنتج والمخرج حلمي رفلة هو من سماها بهذا الاسم بعدما قدمت معه فيلم “العقل في أجازة”، بينما يشير آخرون إلى الفنان عبد الوارث عسر كأول من سماها بهذا الاسم عندما سمع صوتها وقال: “إنها شادية”، وقيل إن إحدى صديقات والدتها هي من اختارت لها هذا الاسم.
ورغم شهرة شادية الكبيرة إلا أن هناك جانبا مهمشا ربما يكرن مجهولا من حياتها لم تركز عليه وسائل الإعلام أو تتحدث عنه كثيرا وهو الجانب الخيري في حياتها، حيث عاشت شادية طوال حياتها محبة للخير وفعله، وقد زاد اهتمامها بالأعمال الخيرية بعد اعتزالها العمل الفني في سنة 1986، حيث تبرعت بشقة كانت تمتلكها في منطقة ميدان لبنان لصالح جمعية “محمود” الخيرية التي أسسها الدكتور مصطفى محمود رحمه الله.
كما خصصت جزءا كبيرا من أموالها للأعمال الخيرية كما تبرعت بقطعة أرض كانت تملكها في منطقة الهرم وأشرفت على بنائها كمجمع ومؤسسة خيرية لخدمة أهالي المنطقة والمناطق المجاورة لها، وكانت تذهب بنفسها لتتابع الأعمال الإنشائية في هذا المجمع حتى اكتمل بناؤه، وبالفعل أصبح هذا المجمع يقدم للمحتاجين العديد من الخدمات المجانية وذات المقابل الرمزي من خلال دار أيتام ومستشفى خيري ومسجد ودار لتحفيظ القرآن الكريم.
وقد كانت شادية رحمها الله تشرف بنفسها على جميع الخدمات المقدمة للمحتاجين، ثم تنازلت عن الإدارة لجمعية خيرية أصبحت هي التي تدير ذلك المجمع، وهذه الجمعية الخيرية تحمل اسم الصحابي الجليل عبد الرحمن بن عوف، حيث توسع نشاط المجمع الخيري والمؤسسة التي أنشأتها شادية بعد مرور ما يقرب من 30 سنة على إنشائه وأصبح يقدم خدماته لما يقرب من 200 ألف شخص سنويا، هذا بجانب الإعانات التي يتم تقديمها لحوالي 200 أسرة شهريا من مرتبات ومستلزمات أسرية وإعانات لزواج الفتيات وتقديم العلاج للمحتاجين.
د. أحمد مصطفى