وصلت إلى العاصمة البلجيكية بروكسيل صباحاً، وأخذت غرفتين بأحد الفنادق المتواجدة وسط المدينة، واحدة لنا والأخرى لبناتي. كان الفندق جميلاً للغاية ويطل على الشارع الرئيسي، وقريباً من المرافق التجارية والإدارات الحكومية وغيرها. خرجنا نتجول ونتبضع، وأخذنا غدائنا بجانب النهر، ثم رجعنا إلى الفندق لأخذ قسط من الراحة.
في هذه اللحظة، تبين لي أن أذهب إلى شارع (rue de Brabant) لأشرب كأسا من القهوة في جو مغربي. ويا ليتني ما فعلت. هذا الحي معروف بسيطرة الجالية المغربية عليه من حيث التجارة، بما فيها المتاجر التي تبيع كل شيء، والمقاهي، والمطاعم، وحتى المساجد. ترى أناساً يتجولون بملابس تقليدية، فتظن أنك في سوق من الأسواق الشعبية بالمغرب، مكان لا ينقصه سوى العربات المجرورة بالدواب والباعة المتجولين.
كان الجو جداً بارداً، ومع ذلك كانت الحركة مزدهرة. وأنا أخرج من الفندق متجهاً إلى ذلك الحي المشؤوم، وما هي إلا أمتار معدودة حتى وجدت نفسي وجهاً لوجه مع بنايات زجاجية، أو بالأحرى ناطحات سحاب متعددة. وقفت مشدوهاً من فخامة المكان، مما جعلني أسأل أحد المارة، الذي كان واقفاً بجانبي، أن يزودني ببعض المعلومات عن المكان. وبالفعل، أفادني بما فيه الكفاية لأكتشف أن هنا تجتمع جميع المكاتب المهمة عالمياً، منها مكتب حقوق الإنسان العالمي، والبرلمان الأوروبي، وملحقة اليونسكو، وغيرها. نعم، هنا يجتمع العالم تحت سقف هذه البنايات الشاهقة.
أخذت صورة تذكارية، وعرجت على اليمين لمسافة خمس دقائق، فإذا بي بالحي المغربي، كما يسمونه. استلقيت على أول كرسي لمقهى مغربي، طالباً كأسا من القهوة السوداء، راجياً النادل أن تكون مظبوطة. فأنا مدمن حتى النخاع على القهوة السوداء. وما أثار انتباهي هو الكم الهائل من الشباب المتجمهر بباب المقهى، فهذا يتشاجر، والآخر يبيع المخدرات، وتزدهر تجارة المسروقات علناً وكأن الأمر عادي جداً.
أما في الداخل، فمنهم من يلعب (الكارطا أو البارتشي)، وآخرون صامتون، ربما يفكرون في مصيرهم بعد أن فعل الزمان فيهم ما فعل. لحظات بعد ذلك، سيبدأ مسلسل من البأس، وكان بطله الأول شاب مغربي اسمه عمر من القنيطرة، في مقتبل العمر. وقف على جانبي الأيمن وبصوت منخفض قال: “خويا فيا جوع”. نظرت إليه فإذا به شاب وسيم، المحيا رشيق البدن، لباسه عبارة عن أسمال بالية متسخة. طلبه للأكل وحالته تدلان على صدق نيته. طلبت منه أن يشاركني طاولتي، وطلبت له بعض الأكل وكأس شاي منعنع. التهم نصف الأكل، واحتفظ بالنصف الآخر. هنا قلت له: ألم تقل أنك جائع؟ فلماذا لم تكمل طعامك بالكامل؟ فكان جوابه صادماً. مرة أخرى، حين أشار بيده لشاب آخر يقف في الرصيف المقابل للمقهى، وقال بأنه صديقي وهو الآخر جائع، وسأعطيه النصف المتبقي من الأكل. يا لها من شهامة، ويا لها من روح التعاطف التي أشاهدها أمامي، حيث تعاون لا مثيل له بين صديقين يتقاسمان قسوة الغربة والفاقة.
شربت قهوتي، وأعطيتهم ما تيسر لي من يوروهات كانت بجيبي، حيث أنني تركت حافظة النقود بالفندق عند زوجتي. ضربت لهم موعداً غداً في نفس الوقت والمكان. تجولت بعض الوقت بين تلك المحلات التجارية المغربية، إلى أن وصلت إلى آخر الشارع حيث يوجد المسجد. وكانت صلاة الجمعة على الأبواب. دخلت، وأخذت مكاني بين المصلين. وما إن انتهى الإمام من خطبة الجمعة حتى بدأوا في جمع الصدقات من المصلين. وبعدها، صاح الإمام مخاطباً الجميع بأحدث المستجدات في ما يخص بناء مسجد، وقال بأنهم لحد الساعة جمعوا ما مجموعه مئتين ألف يورو، ويريدون المزيد.
هنا جاءتني عدة تساؤلات مع نفسي. أليس عمر وصديقه وباقي الشباب المتشردين بشوارع أوروبا، والذين يفترشون الأرض ويلتحفون السماء، أولى بهذه الأموال؟ أليست بطون شبابنا الفارغة أولى بها؟ وكأنني نسيت أنني صادفت العديد من شبابنا هناك، تائهين يتسولون المارة الصدقة، وأرباب المتاجر المغربية ببطونهم الكبيرة وتجارتهم المزدهرة، يشاهدون بأم أعينهم حلقات هذا المسلسل المأساوي لشبابنا، وكأن الأمر لا يهمهم.
تركت كل شيء خلفي، ورجعت إلى الفندق حيث مررت مرة أخرى أمام تلك البناية الزجاجية، فلعنت الأمم المتحدة وحقوق الإنسان والبرلمان الأوروبي والناس أجمعين على تشدقهم بالاهتمام بالإنسان. تبا لكل من يدعي ذلك، ووراء بنايتكم جحيم لا يطاق. أبطاله مهاجرون أبرياء تركوا أوطانهم من أجل لقمة عيش.
يتبع.
الكاتب عبدالإله المجدوبي