مقدمة في المناهج التعليمية وتأثيرها في التثقيف العربي المعاصر

هذه مقدمة من بحث مطول بدأت به منذ مدة، ولاأزال أجتهد في إعمال النظر فيه والزيادة عليه وتحسين مداخله بغية الوصول إلى نتائج مفيدة، أسأل الله أن يعينني على حسن تأتيها ومعالجتها وعرضها واستخلاص المهم والأولى منها.

يرتكز البحث إلى فرضية مفادها أن ما أصاب الأمة اليوم من سقوط مروع ودمار كبير وسفك للدماء وامتهان لكرامة الإنسان في غير بلد عربي، إنما مرده أسباب قوية جدًّا ظهرت في الكيان العربي منذ عقود عديدة ومافتئت تفعل فعلها المؤثر، ولهذا كان لابد من أن تؤول الأحداث إلى ما آلت إليه اليوم. ولأن البحث متسع القاعدة متشعب الاتجاهات فإنني سأقصر حديثي هنا على نشر مقدمة تاريخية موجزة بغرض الإيضاح أو المقارنة.

إن إرهاصات النكبة العربية المعاصرة لا ريب عديدة، بيد أن قطاع التعليم يتصدرها جميعًا، وما وقفتُ عليه ولمسته كثيرًا كان الانحدار الشديد في مناهجنا التعليمية. ولهذا فإني جاعل معضلة المناهج أول الإرهاصات، وهنا يسأل سائل متعجل: وما دور المناهج؟ وفي الجواب أن المناهج هي البيئة التي تنهض فيها العملية التعليمية التعلمية المبنية على ركنين أساسين وهما “المعلم” بوصفه المنفذ و”المتعلم” بوصفه الهدف.

ومن أجل الوقوف على المآلات السيئة التي آلت إليها مناهج العصر لابد من الوقوف أولًا على نبذة مختصرة لما كانت عليه المناهج في عصور الإشراق الحضاري العربي والإسلامي. ثم ننتقل بعدها إلى مقارنتها بالمناهج العصرية التي تربَّت عليها الأجيال المعاصرة للفترات الاستعمارية التي خيمت على الوطن العربي.

أولاً: المناهج التعليمية قديمًا

في حضارتنا الإسلامية قديمًا كان الشيخ يعتمد القرآن الكريم وكتب الحديث تهيئةً مثاليةً ليتلقى طالب العلم في سن مبكرة مبادئ علوم العربية ومبادئ الدين، ومن بعدها يرحل الطالب إلى شيخ ضليع في علم من العلوم فينهل منه ما استطاع، وبذلك يتحصل للطالب الأساس المتين، ثم التخصص ليكون هو نفسه شيخًا لجيل قادم. وهنا ندرك بوضوح أن المناهج كان مقسومة قسمين:

1. أساسية إجبارية لكل طالب علم مهما كان تخصصه المستقبلي، وهذه مبنية على حفظ القرآن الكريم وتدبره لغةً وتفسيرًا، والحديث النبوي تلقيًا وتفقهًا، وكل ذلك محله النشأة الأولى للطالب، فيتحصل له إتقان العربية واستيعاب جزء كبير من جمالياتها، وكذلك إتقان مبادئ الدين كالفقه والعبادات والأخلاق.

2. تخصصية اختيارية، وهي ما يتلقاه الطالب من شيخه إملاءً عليه أو إقراءً أو مجالسةً، وفيها يعتمد على مؤلفات الشيخ وشيوخه أو ما يمليه الشيخ على طلابه. وبما أن الشيخ يلقي دروسه في حلقات العلم في علم من العلوم أو فن من الفنون فإن الطالب المتلقي بطبيعة الحال يحصّل بذلك تخصصًا في هذا المجال، فإذا شاء الطالب بعدها انتقل إلى شيخ آخر فاكتسب منه علمًا ثانيًا، أو استزاد في ما حصله عند سابقه.

ثانيًا: المناهج التعليمية الحديثة والمعاصرة

عندما كانت ترسل دار الألسن في مصر طلابها إلى أوروبة في القرن التاسع عشر، كانوا يعودون مشبعين، ليس باللغات الأجنبية فحسب، بل وبثقافات البلدان التي تعلموا فيها. ومن ذلك كانت الأفكار الجديدة في مجال التعليم، فانبثقت الدعوات إلى اتباع وسائل تعليمية تنقلب على التقليدية الموروثة المرتبطة بالدين، وتحاول تقليد الغرب في الشكل والمضمون على السواء. والواقع أن هذا كان استعمارًا قبل دخول المستعمر للبلدان العربية، فلما حلَّ عصر الاستعمار سرعان ما انتشرت المدارس على الطراز الغربي، وفرض ذلك مناهج جديدة مترجمة في أكثرها عن مناهج التعليم الغربية.

كان للمناهج الجديدة آثار إيجابية لا تنكر، ولاسيما في المواد العلمية والرياضية. ولكن في المقابل كان التوسع في ترجمة المناهج على حساب المواد الأخرى، فتقلصت مساحة الاهتمام بالدين واللغة العربية والتاريخ العربي، وباتت دروسها أقل عددًا من ذي قبل وأقل أهمية بعامة. وعلى سبيل المثال لم يبق حفظ القرآن الكريم شرطًا لنيل شهادة عليا، ويومًا بعد يوم تخففت المدارس الرسمية من بقايا المناهج القديمة حتى اختفت، وانحصر القديم بالكتاتيب والتعليم الديني المحض كالتعليم الأزهري مثلًا، وظهر نوع من الصراع الخفي بين مناهج حداثية من شأنها الارتقاء بالمتعلم العربي ودخوله عصر النهضة الحديثة، ومناهج تقليدية منزوية في القرى وأحياء الفقراء.

ولم ينته الأمر عند هذا الحد، فقد كانت المصيبة الكبرى التي أصابت المناهج الحديثة هي الاعتقاد أن اللغة العربية لغة صعبة ومعقدة، وأنه لابد من ابتكار مناهج “تلطِّف” صعوبة العربية. وكذلك انتشرت الرؤى الداعية إلى الاكتفاء بمستوى مقبول فقط في اللغة العربية والأدب العربي والتاريخ الإسلامي. ومن هنا كانت الكتب المدرسية مرآة لهذه المناهج التي ماتزال تتخفف من اللغة العربية وآدابها وتاريخها حتى مُسخت مسخًا أنتج أجيالًا تعاني ما تعاني جراء ضعف شديد في اللغة الأم وفساد الذوق في آدابها وجهل في ثقافاتها الأصيلة وتاريخها بعامة.

كل ذلك كان في رأيي أقوى الإرهاصات للانحدار الشديد والتمزق والتشرذم وضياع القوة والهيبة، ومن ثم دخول التثقيف العربي المعاصر حالة اللاتوازن والملل التي لن نعرف معافاة منها قبل عشرات السنين من الوعي الفكري الذي نفتقده كثيرًا.

الأديب محمود عمر خيتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *