مقهى الخروبة للكاتبة نبال ثوابتة

 

تحت شجرة الخروب الكبيرة العجوز، المُعرشة بعناد وبهاء منذ سنوات، وضعت أم هشام “دوشكًا” فوقه فرشة لون وجهها بنفسجي، تغطيه في الزوايا الجانبية العامودية ورود بيضاء، شكل تجمعها مستطيلاً. وكان الدوشك عندما سوّاه مصطفى صاحب صنعة بناء البيوت، ليس إلا ألواحًا خشبيه طويلة، طول الواحد منها نحو مترين ونصف المتر وعرضه 15 سنتمترًا، رصف مصطفى الألواح وثبتها بمسامير، ليصنع منها أرضية خشبية قوية تستند على حجرين كبيرين مستويين ثم كلَّلها بفرشة.

ولأننا في فلسطين، في قرية بيت الماء، في عام 1960 فلهذه الفرشة التي تحبها أم هشام زوجة مصطفى، قصة.
فقد صنعتها ذات صيف، به الكثير من المشمش، في ذات صباح، في جلسة دائرية لعدد من النساء، لا يعملن جميعهن في تنجيد الفرشة، بل يتحدثن أو ربما ينشغلن بمهام أخرى كجرش العدس أو نظم قرون البامية في عقود من الخيطان. إلا أن منهن نساء أربع، يشكلن زوايا المستطيل العام للفرشة، إحداهن زوجة أم هشام، وهي من تتولى الإدارة والتوجيه في حشو الصوف داخل الفرشة بتوازن حسي، يضمن أن يكون الصوف ممدودًا بذات الانبساط وذات الارتفاع في جميع جوانب الفرشة، مستعينة بعصا طويلة، تهشها أحيانًا بقوة لا تُطير الصوف وبنعومة تنسجم مع ضحكة أطلقتها إحداهن أثناء حديثهن الذي لا ينضب.

وقبل تجهيز الفرشة، فصلت أم هشام للفرشة وجهها (غطاءها) وهو ذلك البنفسجي ذو الورود الطولية البيضاء، أمسكت به أربعتهن وبحرص الخبيرات ألبسنه للفرشة، ووضعتها أم هشام على الألواح الخشبية، وبذلك صار لدى دار العم مصطفى دوشك جميل ومريح.
وكما بدأنا القول، لهذه الفرشة قصة، ولشجرة الخروب أيضًا قصة.
والأهم لدار العم مصطفى… قصة طويلة، وسنرويها.

فعندما فكر مصطفى في بناء هذا الدوشك، كان مهمومًا ومتعبًا جدًّا، يعاني آلامًا في ظهره جراءَ النوم فوق تراب الخروبة.
فقال لنفسه: سأصنع دوشكًا، اتمدد عليه نهارًا وفي ليالي الصيف هو سريري، وهذا ما كان.
بنى مصطفى الهيكل بينما اهتمت زينب أم هشام بالفرشة وجعلت لها مخدتين. واحدة لونها أيضًا بنفسجي- كما تذكرون- ومن ذات ثوب قماش وجه الفرشة، بينما الثانية من قماش رقع ترقيعًا، أي أنها جمعت من مجموعة من قطع القماش التي زاد منها يومًا ما شبر هنا وشبر هناك.
جمعتها أم هشام وصنعت منها وجهًا (غطاءً) للمخدة الحزينة، التي يقتضي الترتيب والكياسة ألا تظهر للعيان فتأتي دومًا تحت المخدة الأنيقة من ذات قماش الفرشة الذي لم يكن كافيًا لصنع مخدتين.
ومع أن المخدة المرقعة كانت لمصطفى هي المريحة، فكان لاشعوريًّا يسحبها من تحت ويضعها للأعلى، ويسند رأسه عليها ويتمتم منزعجًا ومتحديًا: ها.. ولتفعل أم هشام ما يحلو لها.
يلقي حطته البيضاء جانبًا ويشبك كلتا يديه خلف رأسه ويتمدد على ظهره مواجهًا غيمة خضراء ثابتة وعصية، فردتها غصون الخروبة بما لا يدع مجالاً للشك بأن الفي (الظل) قد تحقق.
ومن يعرف مصطفى، سيفهم تمامًا ميله للمخدة الأقل حظا، فهو شخصيًّا ممن يقال عنهم: الأقل حظًّا.
فمع مرور سنوات عمره التي شارفت الآن على الـ 50 ودنو زوجته زينب من الـ 39 عامًا إلا أنهما لا يزالان ينتظران يومًا سيرزقان به بهشام.

مصطفى وزينب مكسوران بمقدار خيبتهما، فإنْ كنت في قرية بيت الماء وإنْ لم يكن لك ذرية فهذا يعني أن تنكسر، وأن تعتاد أن تمد لك الأيدي والألسن الكثير من العطايا والنصائح.
إلى أن تأتيك السماء يومًا بجائزة ترضية، عن كل ما كان من خذلان.
الحاجة أم مصطفى بشيخوختها الحميدة وحكمتها الصامتة، كانت صمام الأمان في حالة ابنها مصطفى وزوجته زينب، فعندما تضيق بهما الدنيا ويختلفان، وترتفع أصواتهما، ويهم كل واحد منهما للتوجه للقسم المعاكس من الدنيا، تأتي الحاجة أم مصطفى بظهرها المنحني وإيقاع عكازها الحازم، لتسحب ابنها مصطفى وتمضي به إلى تحت الخروبة، ويا للروعة! مع وجود هذا الدوشك المستجد، تصبح الجلسة من أجمل ما يكون.

تهمس في أذنه كلمتين حنونتين، بتلك الطبقية المخملية المخفية من صوتها وكأن كلماتها لا تقال بل تُدهن، كطبقة عسل فوق شطيرة الروح.
وما هي إلا دقائق، حتى تسيطر ابتسامة مصطفى على وجهه الطيب. لتقوم لحظتها أم مصطفى قائلة: خليني أغلي لك شوية خروب وقرفة، وأنادي ع زينب تشرب معنا.
تغيب الألأم العجوز المثقلة بهمهما، هم انقطاع الذرية وحسرة القلة، فهي لم تنجب سوى مصطفى وها هو مصطفى ينتظر وقد قارب الأمل على أن يجف وهشام لم يأتِ بعد.

في خطواتها ما بين الخروبة ومطبخها البسيط المتواضع مسافة جزء منها ترابي ثم تنتقل الخطوات إلى مساحة ممدوة بالحجارة المتراصة جنب بعضها البعض، تعلوها الكثير من الزريعة المنتشرة بالكثير من الفوضى ما بين أحجامها وأنواعها.
تصل أم مصطفى للمطبخ وحبات عرقها تتسارع ولسانها يلهج بالدعاء: يا رب اكرمنا.. يا رب حن علينا.. يا رب اللطف فينا: ربي لا تذرني فردًا وأنت خير الوارثين. ربي لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
تتناول إبريقًا وتزوده بالماء وتتنقل بثقة بين مجموعة من الأكياس هنا وهناك لتتناول كبشات من محتويات الأكياس.
من هنا خروب ومن هنا قرفة ومن هناك عرق مريمية وأشياء أخرى.
تضعها بالإبريق وتسبق يدها كلماتها داعية مسترجية.

يفور الإبريق، تطفئه وتنادي زينب، لتحضر الإبريق والكاسات وتمشيان معًا، بعد أن تُقبل زينب من كلا خديها وتقول لها: ربي يرضى عليك يمى ويكملك بعقلك.
زينب المحمرة عيناها من شدة البكاء، تعيد ترتيب منديلها الأبيض فوق رأسها، فكته كاملاً ومسدت بيديها المتعبتين شعرها وكأنها تعيد كل خصلة إلى مكانها الطبيعي، ثم أعادت وضع منديلها فوق رأسها عاقدة إياه عقدة خفيفة أسفل رقبتها.
ومسحت بيديها وجهها، غطته كاملاً بيدها، مكثت يديها قليلاً فوق وجهها ثم سحبتهما ببطء وإلى الجانبين وصولا لأذنيها وكأنها تزيح الحزن. ثم نطقت قائلة: يلا يا عمتي.
حملت إبريق المشروب المغلي وضعته فوق صنية دائرية متوسطة الحجم ووضعت بقربه ثلاث كؤوس وحملت الصينية بيد ومدت الأخرى لمساعدة عمتها على النهوض من فوق كرسي خيزران مربع قصير دائم التواجد في هذا المكان من المطبخ حيث ترتاح فوقه العمة العجوز كلما شعرت أن طاقتها نفدت وأن عليها أن ترتاح.

خرجتا بصمت وكأنهما تسيران في موكب عزاء، كلتاهما تعلمان حق العلم أن حزنهما أكبر من أن تغطياه لمجرد أنهما تحاولان ذلك. لكن في الوقت ذاته، وكما ينفذ ماء المطر للتربة الجافة، يتسلل الأمل لقلبيهما، بل لقلوبهم، زينب والعمة أم مصطفى وأبي هشام، هشام المُنتظر.
الأمل بأن هناك ما سيحدث، معجزة ما ستجلب لهما السعادة، وإيمانهما بهذا الأمل ينتصر دومًا على حزنهما.
فما أن تصلا إلى الخروبة حتى ينهض مصطفى مسرعًا متناولاً الصينية من يدي زينب وليمسك بيد والدته ويجلسها قربه على جهة اليمين على الدوشك المريح، ويحجز بيده الثانية على الجهة اليسار لزينب قائلاً: زينب مكانها هان ع جهة القلب.
فتضحك زينب وتجلس قربه حيث أشار، وابتسامة منتصره ترتسم فوق شفتيها الجميلتن.

تمد يدها وتصب المشروب المغلي لثلاثتهم والحاجة أم مصطفى متواصلة في الدعاء لهما: ربي يرضى عليكما ويوفقكما ويعوضكما عوض الخير، ربي يرزقكما الذرية المعافاة الصالحة. ومصطفى وزينب يجيبان وكأنهما يتضرعان: آمين، آمين يا رب العالمين.
وببساطة حياة القرية ظاهريًّا وبكل طياتها المعقدة، وأدوارها الثابتة والقاسية في معظم الأحيان، تمر الأيام مغلفة بدوران الأشهر، ويواصل مصطفى وزينب حياتهما كما المعتاد، أعمال في الأرض وفي البيت، والانخراط مع الأهل والعائلة الممتدة لأداء الواجب والاسترسال بالانضمام إلى ما فيها من جمعات خير وسعد أو حزن وفقد.

وتستمر العمة أم مصطفى بلعب دور صمام الأمان ما بين مصطفى وزينب، كي لا يتعبا ولا يفقدا ذلك الأمل. وتستمر تلك الجلسة وتناول ذلك المشروب.
حتى يأتي ذلك اليوم، الذي تشعر زينب به باختلاف ما في جسمها وفي همتها، تلاحظ العمة أن تغيرًا ما قد ظهر، فيقفز قلبها فرحًا وقبل أن تسال زينب ما الأمر؟ ترفع عينيها للسماء باكية يا رب يا الله يا حنان يا منان اجعل ما في بالي يتحقق يا الله.
ثم تتوجه لزينب وتضع يدها على بطنها قائلة: زينب، حاسه بشي يا عمتي؟
لتجيب زينب بحذر باطنه فيه سرور، إن دورتها تأخرت وأنها تشعر بغثيان ودوار وتعب، ولا تعرف السبب.
تمسك بها العمة وتقول خير.. خير إن شاء الله، إن بعد العسر يسرًا.
وتمضي الأيام ولا أحد يعلم ما في زينب، إلا قلبها وعمتها. تعرفان أن الحمل قد تحقق ولا يسعهما إلا الدعاء والانتظار والإخفاء، إخفاء الأمر حتى عن مصطفى. وهذه كانت نصيحة العمة، التي أصرت عليها.
ولها في هذا الأمر حكمة كانت تسمعها دومًا من ضابط مصري حارب مع زوجها أبو مصطفى في حرب الـ 67، وخلالها أصيب فحمله زوجها لبيتهما وامضى عندهم شهرين حتى استعاد عافيته وغادر إلى سبيله.
كان دائمًا يردد “داري على شمعتك تقيد” فالشمعة حتى تضيء نحتاج أن نداريها أي نخبئها ليقوى نورها ويستمر، وكأن عيون الناس وأنفاسهم من حولها يمكن أن تطفئها.
فظلت العمة أم مصطفى تحيط بالصمت والكتمان ما في بطن زينب حتى يقوى ويكبر فلا تطفئه عيون الناس وأنفاسهم.
في الشهر الخامس وحين بدأ بطن زينب بالتكور جاءت لحظة الإخبار، التي لم تكن زينب من حددتها بل القدر، إذ كانت ترتدي ملابسها مسرعة كيلا يلاحظ مصطفى انتفاخ بطنها إلا أنه قد لاحظ.
وتقدم نحوها متوجسًا قائلا: زينب بطنك كبيرة وحركتك بطيئة، شو مالك؟
لتنظر زينب في عينيه، تضع يده على بطنها وتقول: اسال هشام، هو السبب.
يمسكها مصطفى من ذراعيها مواجهًا عينيها ويقول: زينب… حامل؟
تدمع عينا زينب، وتخفض رأسها إخفاء لدموع فرحتها التي تتمتزج مع صوتها المرتج: أنا حامل، الحمد لله.
يسجد فرحًا وامتنانًا. ويشعر كأنما أزيحت ستارة الحزن والحاجة عن بيتهما ليبدأ الآن لحياتهما مشهد آخر، مشهد النجومية فيه للفرح ولابنهما هشام.

هشام المنتظر منذ 20 سنة مرت، وها هو الآن يشارف على الوصول، الأشهر الثلاثة المتبقية كانت لأبي هشام أطول من 30 سنة. ولكنها مضت.
وولد هشام، وتوافد المهنئون، يباركون ويتساءلون؟ كيف حدث؟ ماذا فعلتما ليحصل الحمل؟ ما هو العلاج الذي ساعدكما؟ بعد 20 سنة من الجفاف؟ أين ذهبتما؟
لتجيب أم مصطفى التي أعادها الفرح ومولد هشام إلى الوراء عشرين عامًا لتصبح أكثر همة ونشاطًا: رحمة ربنا وعطاه، وتواصل وهي تسحب السائلين إلى ما تحت الخروبة مناولة إياهم كأسًا من مغليها وتقول: وهذا المشروب.
ليصبح ذلك الدوشك تحت الخروبة وذلك الشراب المغلي، مقصدًا لكل زوج وزوجة لم يسعفهما القدر بالإنجاب، وليصبح التردد اليومي على ذلك المكان عادة يومية، يقصدونه، وإذ بالعمة أم مصطفى أعدت المغلي وهيأت المكان وإذ بعدد الزائرين (المراجعين) المحتاجين يتزايد.
يأتون ما بعد العصر ويجلسون، أملاً ويقينًا بأنها “ستزبط معهم كما زبطت مع مصطفى وزينب”. وبعضهم يأتي فقط لأن أصابه ألم في رأسه، وتناول هذا المغلي يساعد في تخفيف الألم وربما الحديث مع من يتواجد من الناس يلهي الموجوع عن وجعه.
وكانت العمة أم مصطفى دائمة الهمة وسعيدة بضيوفها كما تسميهم ضيوف الرحمن، الذين اعتاد بعضهم على الإتيان بما تقسم، بعض البيض وأحيانًا بعض الزبيب ليتناولوه ما بعد المغلي. حتى أن بعضهم أهدى العمة قماشًا دمشقيًّا جميلاً وغاليًا. عرفانًا وتقديرًا وربما ردًا للجميل فقد زال ذلك الألم الملعون من معدته بعدما واظب على هذا المشروب تحت هذه الخروبة، التي ومع مرور الزمن ومع أولى خطوات هشام تحتها بعد سنة ونصف السنة لميلاده أصبحت معروفة ليس لأهل قريتهم وحسب بل لجميع القرى من حولهم.
حتى أن مصطفى فكر بأن يحول هذه الجلسة مع هذا المقعد إلى مقهى مع عد من الطاولات والكراسي ربما سيصبح أكثر جمالاً وأريحية للزوار (المراجعين) الذين بات معهودًا أن تتدخل زينب بأسلوبها الهادئ لتهدئتهم والتخفيف عنهم وطمأنتهم قبل أن تصلهم كوبيات المغلي.
ومع حرص زينب ومصطفى على تهيئة المكان الذي بات أيضًا مصدر رزق لهم. حرصت العمة أم مصطفى على ألا يُمس ذلك الدوشك فهو بركة البداية.
وكانت أكثر حرصًا على ألا يعرف أحد سواها وسوى زينب بمكونات ذلك المغلي وبسر الخلطة.

الكاتبة نبال ثوابتة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *