ملحمة البقاء للكاتب والباحث محمود النادي

كانت تعج بالنشاط، يديها سمراوتان تشبعتا من حرقة الشمس، امتزجتا بتراب الأرض. ملامح وجهها غلبت عليها السمرة، ترتدي ثوبًا فلسطينيًا مطرزاً. علامات الشيخوخة بدت واضحة على جسدها النحيل الذي بدأ المرض يمتص دمها، وداء السكري أصبح يرافقها كاسمها. غالبًا ما تشعر بالإعياء، ما تلبث أن تعود لطبيعتها. إنها ابنة مخيم جباليا، الحاجة أم عصام، ذات السبعين عامًا.

كانت ككل الأمهات تذرف الدموع على أبنائها وزوجها الذين غادروها باكرًا بسبب إحدى الغارات. احتسبت وكبتت حزنها، لم يكن يثنيها شيء عن العمل. كانت قابلة قانونية (داية) جميع نساء المخيم في السابق، ولدتهم في البيت. مع تقدم العلم وتطور القطاع وافتتاح المشافي، لم تعد تعمل بمهنتها سوى لبعض النساء اللواتي لا يملكن. كانت لا تأخذ الكثير، ترضى بالقليل.

إحدى الغارات الصهيونية على المخيم اضطرتها للنزوح، لينتهي بها المطاف في خيمة في إحدى المناطق القريبة من جباليا البلد. إنه اليوم السبعون للعدوان، لم تأخذ من البيت غير مصباح الحاج وبعض الأغطية وأدوات للطبخ، لتبدأ حياة مليئة بالتعب والقهر وصعوبة تأمين متطلبات العيش. لقد ساعدها بعض شبان الحي في نصب بعض قطع القماش التي حاكتها النساء بوسائل بدائية للتخفيف من قساوة الشتاء.

أصبحت هذه الجغرافية الضيقة هي محيطها النفسي الذي تتمسك فيه. بالقرب منها كانت أم زيدان، جارتها في المخيم. مسكينة يا أم زيدان، فقدت ولديها وأضحت وحيدة بلا زوج وبلا حائط ترمي تعلق همومها عليه. ذات ليلة اشتد القصف على المخيم الجديد، الذي كان يضم بعض الخيام المتفرقة التي بدت كالصخور المترامية. اشتعلت النيران، صراخ النساء وعويل الأطفال، وتدافع الناس، الكل في حيرة من أمره، أين المفر؟!

كانت الحاجة أم عصام تلفظ أنفاسها، أخذ العرق يتصبب على جبهتها كأن جبهتها تنزف ماء، لم تقوَ على النهوض. كثرة المشاكل والهموم أنستها دواء السكري، عندها هبوط حاد للسكر، القدمين مثقلتين والعيون متعبة كأنهما معلقتان بسقف الخيمة. استمر الأمر إلى أن سمع أحد الجيران أنين صوتها الغائر، كأنه صوت طفل في زحمة السوق. “ما بك يا خالة؟” لم تستطع الكلام، نشفان الريق ونقص السكر لم يساعداها على الكلام. “حسنًا، سأقوم بإسنادك، ما الذي تحتاجين إليه؟” جاوبت كأنها في وادٍ سحيق: “بعض السكر”. كانت تملك بعضًا من حبات التمر، وتساعدها في القيام بالعمل، وكانت تنزع نواة وتجففه وتصنع منه مشروبًا ينظم لها مستوى السكر في الدم.

ها هي، التقطتها بيدين ترتجفان، ثم نزعت النواة، وضعتها جانبا وتنهدت، ثم قالت بصوت مبحوح: “أحضر لي بعض الماء”. قامت بشكرته وانصرف. أصاخت السمع، على الرغم من الغارة الشديدة، تمكنت من تمييز الصوت بعد أن استعادت عافيتها. أحضرت بعض الماء في قارورة وثومًا، ثم توجهت إلى الخيمة.

“ما بك يا بنتي؟ توكلي على الله. خالتك أم عصام ولدت جميع نساء مخيم جباليا، لا تخافي.” الكل يخرج، اذهبوا إلى خيمتي باستثناء أم زيدان، قالت بصوت واثق. ثم مسحت على جبين الكنة وقرأت عليها آية الكرسي، ونجحت الولادة. قطعت صرة الطفلة بحجر وكبرت في أذنها، ولفتها بوشاح جدتها. ثم اشتد القصف، ولم تستطع والدة الطفلة على النهوض، فركت لها ببعض الثوم على أرنبة أنفها وسقتها بعض الماء. نهضت وحملت أم عصام الطفلة ليعودوا إلى مخيم جباليا حيث بيت أم عصام القديم، علهم يجدون مأوى حتى تنتهي هذه الحرب الظالمة.

الكاتب والباحث محمود النادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *