قراءة لثلاثية الآخر للقاص السوري / نزار حاج علي
قصص قصيرة جدّاً
بقلم نزار الحاج علي
ثلاثية “الآخر”
كلّنا نحمل نفس الشراكة التي تجمعنا مع المجهول
( ١ )
أثر
هاتفك مليء بصوركما وأنتما تأكلان على نفس الطاولة، وتستلقيان معاً على نفس السرير.
في الصباح تخرج إلى الصالة؛ تجد فنجان قهوتك ما زال دافئا، و بدلاً من أن تشربه وتقول لها أحبك…تلتصق قرب الزاوية…حيث تعيش وحيداً.
( ٢ )
آخر
تعود مساءً متعباً، تتجاهل عن عمد صوت طرقاته على الباب؛ يشعر بالملل فيضع إحدى يديه خلف ظهره، ثمّ يتراجع للخلف، يشعر بالإحراج الشديد وهو يردّ التحيّة لمعارفك….يقفز للأعلى لينظر إليكما وأنتما مستغرقان في النوم.
تشعر بالارتباك؛ تلتفت إليه، فتراه عالقاً…على الصورة.
( ٣ )
هلوسة
يتعالى صوت القرع على الباب؛ هذه المرّة لن تستطيع أن تتجاهله…تقفز فتجده نائماً بقربها.
تتفقد هاتفك…و تقرر أن تعرف من الذي التقط لكما كلّ هذه الصور، لكن زوجتك تعتقد أنّك أنت من التقطها.
تستمع لها وهي تبكي:
_أنّك قتلت أخاك.
بينما يقول أخوك: أنه ليس لديّك زوجة.
القراءة
_
بادئ ذي بدء للدخول لمتن هذا النص ينبغي علينا أن ندخله من الباب الذي أراده لنا سارده، وهذا الباب بالطبع هو الصوت السارد، ألا وهو ضمير المخاطب كما تبين لنا ذلك من أول جملة في الاستهلال، بعيدًا عن الجملة الارشادية الأولى التي زيّن بها النص، وجعلها مفتاحًا له، مخافة أن نتوه بين أروقة سراديبه الغامضة في تشتت، والمظلمة كبؤر سردية ثلاث.
وجملة الاستهلال هى (هاتفك مليء بصوركما)، ومنها يتضح لنا أن الكاتب اعتمد ضمير المخاطب ( أنت ) ليكون لسان سارده مخاطبًا بطل أقاصيصه الثلاث.
والسؤال المطروح الذي ينبغي على ناقد طرحه ها هنا هو ” لم استخدم الكاتب ضمير المخاطب؟” وللإجابة عليه نجد أن الكاتب إتباعًا للمدارس السردية الحديثة فعل ذلك لإشراك المتلقي في صناعة الحدث القصي، وذلك ما تحبذه المدارس الحداثية إلى جانب تطورات أخرى، أو ربما…وأكرر ربما كان الكاتب أذكى من يكون ذلك مراده ( إتباع النهج الحداثي السردي) فقط، وأنما رمى إلى هدف آخر، وهو ما أميل إليه شخصيًا، بأن أراد أو رام توريط المتلقي فجعله بطل أقاصيصه، ولم يكتف بإشراكه فقط في صناعة الحدث، وكلا الهدفين جيد ومطلوب ومستحسن، فما بالنا وقد ضرب الكاتب عصفورين بحجر واحد!.
وبالعودة إلى تصنيف النص ( ثلاثية قصصية)، نجد أنه لزامًا علينا توضيح الماهية الأدبية للثلاثية إجمالًا وبتبسيط موجز.
الثلاثة القصصية ( خاصة الققج): عبارة عن ثلاث قصص قصيرة جدًا؛ كل قصة مكتملة قائمة بذاتها، تحقق شروط ومعايير القصة القصيرة جدًا دون الاتكاء على ما يليها أو ما يسبقها من قصص، ويربط الثلاث قصص رابط موضوعي محسوس وملموس، بحيث إن جمعوا معًا صاروا قصة قصيرة جدًا واحدة، ويطلق الثلاثية مجازًا وعرفًا على تجزيئ المتن إلى ثلاث فقرات مرقمة أو معنونة، وهذه التقنية السردية أسهل من الأولى.
والآن آن أوان أن نرى أي الثلاثيتين هى التي بين يدينا.
*وينبغي قبل ذلك أن ننوه أن الكاتب المبدع نزار الحاج علي ينتهج النوعين عادة، وإن كان أميل للأولى منهما.
ثلاثيتنا تتخذ عنوانًا رئيسًا لها( الآخر)، يتبعه ثلاثة عناوين للثلاث فقرات التابعة له( أثر/ آخر / هلوسة )…هذا أولاًا، أما ثانيًا فهو الرابط الموضوعي الملموس ونراه في ثبات شخوص النصية( السارد / المخاطب أو بطل القصص الثلاثة/ الأخ / الزوجة)، وهذان شرطان من شروط الثلاثية تحققا، فماذا عن الشرط الثالث؟ ألا وهو استقلالية النص وإكتمال أركانه كقصة قصيرة جدًا.
أثر// أراها ق ق ج مكتملة الاركان ومستوفية للشروط من حيث البنية السردية والحبكة والمعالجة والمشهدية والمخاتلة او الصدمة أو المفارقة.
آخر // هنا تتبدى لي ملحوظتان في غاية الأهمية؛ أولاهما غموض النص، فالتجاهل أدى لتجهيل الذي التقط الصور؛القافز إلى أعلى؛ العالق على الصورة.
وثانيهما انتقال السارد من تقنية ضمير المخاطب إلى تقنية الراوي العليم( يشعر بالملل فيضع إحدى يديه خلف ظهره، ثمّ يتراجع للخلف، يشعر بالإحراج الشديد وهو يردّ التحيّة لمعارفك….يقفز للأعلى لينظر إليكما وأنتما مستغرقان في النوم.) وهو ما أراه تدخلًا من الكاتب في صلب النص، وهو ما نصطلح على تسميته ( إقحام الكاتب ) وهو أيضا ما أتفق على عدم قبوله أدبيًا.
الخلاصة: أن ( آخر ) لا تستقيم كقصة قصيرة جدا مستقلة بذاتها، ولا يمكنني استيعابها إلا كجزء من قصة قصيرة لها ما يسبقها أو ما يليها.
هلوسة // أراها ق ق ج مكتملة الأركان مستوفية للشروط.
ولكن ماذا عن الفكرة ؟ ولم أصر الكاتب على تدوين جملته الافتتاحية ( كلّنا نحمل نفس الشراكة التي تجمعنا مع المجهول).
يقول الكاتب أن كلًا منا لديه آخر يشاركه ذاته، ويتحكم أحيانًا في مجريات حياته ومصائرها، والآخر هذا ليس غريبًا عنا، بل هو ذاتنا نفسها إن شئت أو لا وعينا غير المُدرك بوعينا، وتتفاوت درجات تحكمه في تصرفاتنا، فيتبدى لنا وسوسة أحيانا، و ريبة وشك أحيانا، ووو إلى أن يبلغ ذروته المرضية فيصير هلوسة يتبعها جنون أحيانا أخرى، كحالة بطل قصتنا أو كما تعمد الكاتب أن يخاطبك ” أنت “
فلا زوجٌ ولا زوجة وإنما هى أوهام يعانيها مريض تقتله الوحدة، فتنسج له خيالاته ما يرى وما يسمع رؤى العين وسمع الأذن.
مريض مسكون بالوحشة الجاثمة في تلافيف ذهنه بعد أن أقعدته بين فنجان قهوة وسرير وأربعة جدران وربما أخٌ يهتم برعايته بين حينٍ وحين.
ذكرني هذا النص بنص آخر ( الفنار ) للأديبة المصرية الرائعة / أمل البنا .. حيث كان لوحشة الفنار وسواد الليل وهدير أمواج البحر مفعولها المؤثر في عقلية عامل الفنار، فأصابه ما أصاب بطل ثلاثيتنا.
المشهدية : أروع ما في الثلاثية هى المشهدية، فقد برع نزار في خلق الكادر المشهدي كأجمل وأقوى ما يكون، حيث نرى الشخوص والمكان، ونشعر بالزمان ليلا او نهارا، كما برع في تجهيز الخلفية المشهدية ( الديكور: سرير وجدران وطاولة وفنجان قهوة وأبواب ).
مشهدية اعتمدت على بعث الشق النفسي والحركي معًا في تناغم مدهش، ساعده في ذلك حسن اختياره للكلمات الداعمة لكليهما ( تأكلان/ تستلقيان/ تخرج/ تعود/ يقفز/ يشعر/ يتعالى / يقول /يضع/ يتراجع،..،..،..).
تحياتي القلبية
الأديب محمد البنا