يتذكر حين أقبلت – مع تباعد السنين-على مكانها المعتاد بوجهها الجميل المستدير وخديها المكتنزين كأنهما تفاحتان، وأنفٌ أقنى كأنه صنع من أغلى أنواع المرجان وشفتان من الكرز مخضَّبتان بلون أحمر طبيعي، وابتسامة زاهية، وعيون تحاكي عيون الغزلان، وخصلات شعر أسود في خبايا طرحتها الوردية بدا حالكا كالليل..
بدت زهرة جميلة تجاوزت الثلاثين من عمرها جاءت وابتسامتها تملأ المكان لكن العينين كان فيهما نظرات تعب وعتب، نظرات تائهة حائرة، تكاد تكفف الدمع قبل أن يسقط ويهزم كل هذه الهيبة والقوة ويهزم كل هذا الجمال، وكأنها تتألم وتختبئ خلف أسوار هذه الابتسامة بصمت.
عادت تتحدث عن حياتها من جديد… وردةً تفوح شذى وعطراً، فيها عبق الماضي، تبني جنباً إلى جنب مع أهلها.. تراها فتشعر أنك مسئول عنها مسئولية كاملة تأخذ بيدها، وتمسح على جراحها وتبحث في قلبها عن الحنان، وكلها أشياء تبعث فيها روح السعادة وترفع من قدرها، وتدفع مسيرتها ضمن مجتمع متغيّرٍ لا تثبت فيه القيمُ ولا المفاهيم.
باتت امرأة تتدفق عندها معاني الحياة وتحتضن رغباتها النقية وتحافظ عليها في أمن وسلام، تنظر إليها وكلك تقدير لكونها اختصتك بالحديث، تحب حديثها وطلتها وحضورها حتى أضحى حبك لحديثها ترجمة مكتوبة في سطور تقرأها وتستمتع بها.
لقد أيقن – وهو يحدثها – أن لب الأنس بالأخر يكمن في مدى أنسك أنت به، ربما لمجرد رؤيته أو محادثته هاتفيا أو الجلوس بين يديه، لكن الإنسان بنوعيه الذكر والأنثى يصنعه مجتمعه، فيرى فرقا بين كونه متعلما وكونه مثقفا فليس معلوماته هي علمه بقدر تفهمه لمكائد الأخرين الذين ظاهرهم الرحمة وباطنهم من قبله العذاب، إن عالم اليوم المضطرب يحتاج كثيرا من الحذر والحيطة، وخاصة المرأة التي تقبع بأميتها أو تعلمها وأنوثتها الوجدانية التي قد تسوقها لحسن ظن يؤذي حياتها ويقلب موازين أمورها.
حياتها بسيطة، تنسب لأسرة كريمة ولأب طيب متعلم تكاد تحبه من فرط حبها له، تجيد القراءة، ولا تجدد وقتا للاطلاع، تتعامل بدقة بالغة وحساسية مفرطة مع زملائها.. سنوات مرت على رحيل أبيها، ومازال مشهد رحيله يتكرر أمامها كلما فقدت حبيبا أو عزيزا، وفي مشهد قديم من مشاهد، الأسرة، جلست بجوار أبيها بعد أن قبلت يده؛ فنظر إلى ابنته الغالية وكأنه يحدثها بعيونه حديثا لا يفهمه غيرها فأدركت أن أمرا ما يدور في ذهنه فسألته على وجل:
– ما بك يا أبى؟
-فيرد باسما: يبدو أنه كان يوما شاقا، فقد تعبت كثيرا في عملي وإني أسأل الله أن يكتب نجاحك اجتهدي بنيتي وفقك الله…لم يغب عنها نصح أبيها واجتهدت قدر استطاعتها…
ظهر ضوء الفجر ولم تكد تغمض لها عين…ولم يهدأ لها فكر. نهضت من فراشها وهي عازمة على حفظ وصية أبيها، حملت أحلامها واتجهت بها نحو المستقبل البعيد…ثم سارت بين أزقة الأيام وشوارعها، وهي تكاد تسعد مما تفعله.
سمعت أمها تناديها…نحتاج بعض الطلبات من البقالة، خرجت وضوء الشمس يغازلها؛ لتحضر أغراض المنزل. دخلت إليهم…وهمت بالجلوس…وقفت جنب أمها تساعدها في اعداد وجبة الغذاء، وإذا بجرس الباب يدق ولأنها القريبة من مدخل البيت، فتحت الباب فوجدت أخاها الصغير وقد عاد من المدرسة يجر زميلا له، وخلفه يدخل أبوها منهكا متعبا…فكانت أول من رأى…
-كيف حالك حبيبتي؟!
-الحمد لله أنا بخير…!
استلقى الأب على ظهره ونظر إلى سقف الغرفة جاءته الأم…وقبل أن تلفظ بأي شيء…قام بإخراج نقود من حافظته وقال: خذي يا زوجتي الغالية هذا مصروف المنزل. ثم أطبق صمت الأب على أنحاء الغرفة وراح في سبات عميق…. أيقظه صوتها الأكل جاهز يا بابا…
جلست إلى جنب أمها تتابع مسلسل (ذئاب الجبل) …واتكأت على وسادة أحضرتها من حجرة نومها…نظرت حولها فوجدت أخواتها يفترشن الأرض ويتوسدن أذرعهن، وتعجبت من الصمت…الذي حل بالبيت فجاءة بعد انتهاء حلقة المسلسل، لكن النعاس والتعب والألم غلباها… فقررت أن تنام هي الأخرى.
ومع طلوع الشمس. فتحت عينيها لتجد أخواتها نائمات بقربها…احتضنتهن بحب شديد والتفتت فلم تجد أمها في الغرفة…اطمأنت قليلا…حين علمت بوجودها عند الطيور التي تربيها فقد خرج الأب لعمله مبكرا كالعادة… وفي مكان أخر من القرية…فتاة تزغرد بصوتها العذب تحاول وضع الكثير من أكياس الحلوى التي تريد توزيعها على الجيران، فقد نجحت في الإعدادية. جاءت إحداهن – على استحياء- تبلغها بنجاحها وأن مجموعهما يؤهلهما للالتحاق بالثانوية العامة. قالت برقه خالطتها ابتسامة…الحمد لله رب العالمين. وعندما انتهت احضنتها الأم.. وهي تقبلها بعينيها من فرط فرحتها وإعجابها بما حققت، يدخل الأب على صوت التهاني. كم هو لطف منك يا بنيتي أن أراك ناجحة…خذي هذه النقود…ليس لدي ما أقدمه لملاك جميل مثلك غير هذه القبلة على جبينك. أمسك الوالد بكتف صغيرته التي كان سعيدا بإنجازها…وقام يوزع الحلوى بنفسه.
وقفت تنظر الى أبيها والسعادة تملأ وجهه البشوش. يجول بنظره بحثا عن أبنائه ويبارك نجاح ابنته. هنا أدركت أن للحب علاقة بيضاء بين المحب والمحبوب فكما يحتاج المحب لأجنحة من الحرية لأجل بث مشاعره مع الأخر فالمحبوب يحتاج إلى يد طبيب ماهر يقوم بجراحة ناجحة في الوقت الذي يكون صاحبه شديد الحساسية تجاه أي رؤى.
بدأت مرحلة جديدة في حياتها، مرحلة اكتمال الأنوثة، بدت رشيقة أنيقة، بهية نقية، زهرة فواحة بعطر المودة، بستان أمل وعمل وحياة، كبيرة فتيات القرية التي علمتهم سحر الجمال وبراعة الرد، تلقى سهامها فتصيب من تصيب، وهي كماهي.
هذه جارتها أتت وفي عينها دموع، تشتكي حبيبها، وتحكي عن حبها الذي كان حديث القرية وفي يدها أخر رسالة كتبها، لقد أحبها حبا جما، حبا أفلاطونيا، ينتابه الغيظ والغضب إذا ذكرها أحد أمامه، وربما سبب له الأمر حرجا شديدا حين صفع أحد أقرانه لمجرد ذكر اسمها مقرونا بكلمات غزل بسيطة، كان يكتب لها رسائل حب، كتب خطابا أرسله لها مع شقيقه الأصغر كان في رسالته: ” لم أتعود الحنين لكني اليوم اشتقتك كثيرا، اشتقت رؤيتك، الجلوس بين يديك، شعرت أن شيئا ما ينقصني، كلمت الجدران والأشياء التي رأتك في أول لقاء بيننا، أتذكرين هذا اليوم من العام الماضي ؟ حين كنا معا في هذا الزمان وهذا المكان، حين كنا روحا واحدة في جسدين؟! إني أحبك، وهذه الكلمة الحانية التي تشق طريقها إلى قلبك ليست مجرد كلمة بل شعور حيا يكتنف مشاعري وأنا بين يديك مشتاقا..
هنا في بيتنا رأيتك في كل مكان، رأيت بسمتك وابتسامتك ومداعبتك وضحكاتك العالية ولمستك الرقيقة الناعمة، رأيت الحنان بكل ما فيه، وتمنيت أن تأتي على غير موعد، فكلما سمعت طرق الباب ورنين الجرس جريت فرحا لعلها أنت قد أتت بغير موعد تسعد قلبي، وتأخذني في حضنها الدافئ، أقبلها قبلة الود والمودة، أخبئها بين ذراعي، أحملها فوق رأسي، أربت على كتفها لكنك لم تأتِ وبقيت وحدي أترقب الحضور والمارة والطرقات، أترقب دقات الجرس وقرع الباب.. إني أحبك وأحب كل شيء فيك حتى غيابك عني، وعدم حضورك الجميل الذي اشتقته، أحب فيك هذه اللهفة وهذا الورع وهذا الجمال الصافي الراقي ربما كتبت لك من وحي خيالي…ورسمتك في عيوني السود حلما طالما تمنيت تحقيقه. وقلت أغدا ألقاك. وغنيت لك. أنت يا جنة حبي واشتياقي وجنوني”.
فقط لسنوات التقت أحلامهما ورحل في طريقه ليتزوج صديقتها الموظفة، ويتركها في حزنها ساهرة باكية، لكنها خففت عنها، وربت على كتفها، وواستها وأضحكتها، فخرجت بابتسامة مغلفة بتنهيدة طويلة.
هي أم أبيها، وصاحبة لأصحابها، لم تعبأ بكثير من شباب القرية الذين هاموا في حبها حتى وصل الأمر بأن أحدهم هدد بقطع شريانه إن توانت في الرد عليه، وغيره يجتهد خاطبا ودها. هنا تيقنت مع مرور الوقت أن ثمة حلم بديل عن الأحلام في الذاكرة القديمة، يتدفق ويكشف عنها بانفعال حاد يبحث معها عن ذاتها وتحقيق قدر من توازنها في ظل عالم يتسم بالشرخ والفوضى.
لكنها صدحت كعصفورة مدللة تجيد الطيران لا تعرف حدوداً بين الأمكنة ولا تقيدا بزمن. فكلما استقرت في ذهنها حالة، كلما تمردت وجاهرت تهاجم حالات الحياة وتقلباتها المتناقضة فعاشت بواقعية ومعاني جديدتين تطل بهما على الحياة وتحلق فيهما نحو فضاء مفتوح.
لقد تأكد لديها أن الرومانسية لا تولد الحب فحسب ولكن تبقيه مشتعلا بين الطرفين فالحب مشاعر نبيلة تزيد الرغبة في الحياة، تأتى من القلب، أما الرومانسية فهي أفعال وتصرفات تأتى من الوجدان. مما جعل أحلامها تشبه أماني طفلة هدهدتها الأيام بأنشودة لا تفهم معناها لكنها تطرب لسماعها…. عين يقظة ويد بيضاء طاهرة.
تتابعت خطواتها على صوت نداء رنان فإذا بسيدة جاوزت الخمسين من عمرها تحتضن شابة بنت سبعة عشر عاما وتتوسل إليها وهي تكفكف دمعها براحتيها وعيونها الوقحة في وجهها الملائكي البريء تعتذر عن غيبتها الطويلة التي جاوزت الشهر – على حد قولها – أيام مرت كأنها عقود.
-كم أنا سعيدة برؤيتك أيما سعادة وأخذت يدها نحو منزلها وهي ترمق الطريق وتمعن النظر وكأنها تتخفى من عيون الناس.
توقفت لحظات أمام بيتها وأخرجت من جيبها بعض حبات العقد الذي انفرطت وهي تنزل من التوك توك الذي أحضرها من سوق الخضار، ووضعته في يدها بكل حب واتجها نحو حجرة قريبة من مدخل المنزل وما أن دخلا حتى رمقتهما جارة بنظرة خاطفة.
كم تمنت هي الأخرى لو تحظ بجلسة العجوز التي تشبه رقبتها كعب الحذاء ويشبه حديثها حديث أبي لمعة مع الاختلاف الكبير بينهما.
سارت (العجوز) مسرعة نحوها بكوب من الشاي الذي أعدته خصيصا لها…وبدأت بمداعبتها والمكر يملؤها…ثم لملمت ألفاظها قائلة: كم أنت جميلة الطبع والصورة، لقد ورثت عن والدك كل صفات الخير، وعن والدتك كل معاني الجمال، تكاد تأكلها بعينيها الجاحظتين…
-أنت صديقتي، وأنت تعرفين أن الصداقة من أبرز القيم الإنسانية التي تسمو بها الحياة وهي الوجه الآخر غير البراق للحب ولكنه الوجه الذي لا يصدأ، كم تمنيت أن يطول الحديث بيننا، فالحديث معك ذو شجون، وإني أعتب على جارتنا جلوسها أمام بيتها طول النهار، تذكر هذا وهذه وتلك، وتسال عن أحوال الناس، ولايعرف أحد حالها، بيد أنها تأتيها الأخبار تباعا، كل أسرار القرية لديها، فإن أردتِ أن تعرفِ سر بيت… لحظات بجوارها تقرأئين نشرة أخبار البلد، وهي مع ذلك لايكاد يفوتها واجب عزاء، في كل دار لها ذكر، وفي كل جنازة لها صوت، لاتخلع اللون الأسود فرحة وعزاء، لقد رأيتها تناقش أمك في أمر زواجك، وتسألها: لماذا لم تتزوج حتى الأن، هل عميت أعين الخطاب؟! قالت لها أمك: إنها مازالت صغيرة على الحب والزواج، فردت بإنكار: الصغير غدا يكبر…
كلام كثير…. لكنها كانت تستمع دون انصات لها، فلما رأت منها ذلك ابتسمت وشكرتها على حسن استقبالها ومنطقها وفلسفتها، وانتهت من شرب الشاي.
-أنا طالبة بالجامعة ومازال أمامي سنوات للتخرج وبعدها يفرجها ربنا، شكرا لحسن استضفاتك
طلبت مغادرة المنزل إلا أن (العجوز) لم تبادرها بما جاءت لأجله، ولم تحدثها بشيء مما جال في صدرها، وكأنها أجلت حديثها للقاء آخر.
وصلت حجرتها وهي تتعجب من صنع هذه السيدة معها وقالت في نفسها لعل حاجة دعتها لهذا اللقاء المريب…نظرت إلى (أمها) فوجدتها قد نامت.
فتحت باب دولابها وأخرجت فستانا، وكل تفكيرها ماذا كانت تريد منها العجوز؟!وضعت الفستان و أغلقت باب الحمام…ثم استدارت لتغلق باب حمامها فإذا بأمها قداستيقظت على صوت الباب…
-هل حضرت ياحبيبتي؟!
-نعم يا أمي…
اتجهت الأم نحو كنبة في زاوية الحجرة ودعت لبنتها بالستر والهداية، وأن يفرح الله قلبها بابن الحلال.. التفتت تلقائيا إلى شباك في حجرتها لتطمئن على أحوال المنزل وتأكدت أن الأمور على مايرام لكنها رأت على سرير ابنتها بعض حبات عقد زرقاء، فلم تهتم بها وخرجت، لتعد العشاء..
اجتمعت الأسرة كلها على المائدة ذكورا وإناثا تتوسطهم بفستانها المزركش بأزهار الربيع وضفيرة شعرها الأسود الداكن الذي يشبه سواد الليل، أخافها عزم العجوز وإصرارها…لم تدرِ ما الذي جعلها تصمت…؟!.لماذا لم يستمر حديثها حتى تتفهم للأمر؟!…ولماذا تركت حبات العقد؟! لكنها -على وجل- اندمجت مع مسلسل (رحلة السيد أبو العلا البشري). وتاهت في حواره الرائع مع نجوى…
استطردت في تذكر ماضيها، وكيف أن طيبتها سمحت لها أن تقبل بكل سذاجة طلب (العجوز) وكانت (العجوز) تريدها بقوة لابنها، لكنها لم تكن مستعدة بعد لقبول أي علاقة عاطفية أو ارتباط يؤثر على مسيرتها العلمية – المتواضعة – فلديها أحلام وطموحات….
وفي لقاء غير بعيد عن اللقاء الأول، بادرتها بالتحية من شباك منزلها المطل على باب بيتها وهي تناول أبيها شنطته، يبدو أن (العجوز) لم تشأ أن تتركها لحالها؛ فلجأت لحيلة تغير مسار حياتها واستغلت ضعفها وطيبتها وحبها لعمل الخير.
-يا رب تكوني بخير يا حبيتي، أنا جاية أشرب معاك الشاي.
-وبعدين في الورطة دي؟ هو مفيش غيري، يا ترى الست دي عاوزة مني إيه؟!
قالت لها:
-لم يعد هناك ما يسمى…مأوى…أو عائلة. بنيتي: إن ابن عمك يجلس بين قطع الخردة البالية وحصيرتان ملقاتان على الأرض…مريض…بائس…يكاد يموت من الحسرة. لم تعد لياليه دافئة…وقد تلطخت ثيابه بماء السحر…لم تعد حياته كما كانت…غاب فكره ولا يعرف أحداً في القرية.. لا يستطيع الجلوس في البيت. ليس هناك جيران…ولا أقارب…شاب في بداية العقد الثالث من عمره أين عساه يذهب؟
لقد أحب الحياة لكن الحياة لم تحبه، كاد أن يموت لولا هذه الدعوات الخالصة، لقد لملمتُ عثراته وذهبتُ به إلى شيخ (دجال قريب من قريتها) فصنع له حجابا واشترط أن يكون بيد أنثى في مثل عمرك تحفظه وتخفيه في صدرها؛ حتى يسترد عافيته وصحته!! وقد اخترتك لأنك الأنقى والأبهى، فسرك في بئر، وسيرتك طيبة، وسريرتك معروفة، فلم أجد غيرك للقيام بهذا! ساعديني وخذي الحجاب، واصنعي معروفا في شاب بات على أعتاب الرجولة، واكتمي الأمر فلا يكون إلا بيني وبينك.
لم ترد عليها، فأمسكت أناملها، وجذبت بشدة كفها، وألقت الحجاب، ثم أطبقت أصابعها، وتركتها في حيرة ودهشة، وبسماتها تملأ الوجه. ثم خرجت…بغير استئذان.
خرجت وتركتها حائرة، تبتغي النجاة. تستدعي إشراقة الشمس عما قريب…تقول: لا داعي للخوف، لم تكن تدري أنها المقصودة وأن الحجاب الذي أطبقت عليه يدها وضعها في مهب الريح، فهو وزر كبير ارتكبته السيدة لجلب قلبها، ليفوز به هذا الشاب البائس الفقير. وليته فاز وليتها نجت من وزرها.
انقلبت حياة الزهرة المسكينة رأسا على عقب فكادت لا ترى الحياة كما كانت وصار عودها الممتلئ الذي كان يشبه غصن البان ضعيفا نحيفا وتحولت ملامح وجهها الزاهية النضرة إلى ذبول، ظلت تعاني من براثن الحزن التي سببتها العجوز الحاقد.
كانت ابنة العشرين مرحة نشيطة وذكية، مات أبوها، وتركها مع أخوين وأخت وأم، لكنها منذ تلك اللحظة المشؤومة تعاني من ألم وصداع ولم تجد بدا من مصارحة أمها بما حدث، طار صواب أمها. فأخذتها إلى الأطباء فلم يفلحـوا في تشخيص مرضها أو معرفة أسبابه، فالتحاليل والأشعات تؤكد عدم وجود شيء. خطر في بال أمها أن تذهب بها الى المعالجين للسحر والجان. فمن دجال إلى كاهن إلى عراف دون جـدوى حتى لجأت هي الأخري للسحر المضاد؛ فأخذتها لدجال مشهور وعندما قصت حكايتها أمرها بإحضار الحجاب وأكد لها أنه السبب في كل ماينتابها من تأخر في الدراسة وعدم تركيز ونزيف مستمر…. إلخ، وأن عليها احضار هذا الحجاب وحرقه ورميه في أقرب مجرى مائي.. ففعلت….
تخرجت في الجامعة، وبعد سنوات رزقها الله بوظيفة في مدرسة قريبة من بيتها، بدأت تتحسن شيئا فشيئا، وبدأت تحب الحياة، لكنها وهي في طريق الحب يوفقها الله – بعد سنوات – للزواج، قالت أمها: توكلي على الله ما دام الرجل على خلق -كما فهمت منك- وجـاءنا مـن الباب فهو أولـى بك وأنت تخرجتي وأكرمك الله بوظيفة محترمة وانس تماما قصة ذلك الحجاب ولا تذكريها لأحد وانتبهي لحياتك لعل الله يبارك لك.
واتفقت معها على أن تحضر جلسة قراءة حتى تطمئن على شفائها. وحضرت مع والدتها وطمأنتهم أنـها شفيت تماما وخرج الجمـيع في أمان الله لتزف الفتاة إلى زوجها ويوم زفافها لم تدرك ما تعانيه سوى لحظات الخوف التي عاشتها وحدها رغم أنها ما زلت ترى الأشياء جميلة.
فأي شخص لا يستطيع أن يصبح مهموما لكن الهم قد يأتيك من حيث لا تتوقع، ولم يكن يخطر ببالها أنّ ليلة العمر التي طالما حلمت بها أحلاماً وردية ستكون أطول ليلة في حياتها، كما لم يخطر ببالها أنّ فستان فرحها الأبيض سيشهد مواقف مبكية مؤلمة في آن واحد.
لم تكن تلك الليلة تحمل ملامح الليلة العادية باستثناء أنّها ليلة العمر لعروس تبدأ أولى خطوات درب الحياة الزوجية وتهمّ بدخول القفص الذهبي كغيرها من آلاف البنات.. وأخيرا وبعد ظلام دامس دام لأعوام وعدتها السعادة أن شمس حياتها ستشرق من جديد وأن الفرح عائد للبيت بعد غياب.. خلعت ثياب الحزن وتحررت من قيود الغم، صارت كالفراشة تحوم في الأرجاء…حان الموعد وشغف اللقاء يزيد.. بدا كلّ شيء يسير كما خُطط له، زُفّت العروس إلى عريسها في احتفال بسيط، لكنها لم تكد تستوعب ما يحدث حتى كانت قطرات الدم تتزايد إلى أن وصلت حذاءها، خيّم الصمت على العروس حتى إنها لتسمع خفق قلبها المشبوب بلذة لم تخبرها من قبل، حاولت أن تكسر حاجز الصمت إلا أنها لم تكن تمللك من الجرأة أن تحدث أحدا بما يحدث.
دعت أخاها على خلسة من الناس، فما كان منه إلا أن استسلم لإرادتها، لاحظ الزوج أن عروسه لم تكن مرتاحة في وقفتها بعد لقطات من الصور التي أخذتها مع أهله، فأخبرته بما حدث.. فطلب منها برقّة ألا تقلق ولا تخاف فالأمور ستسير على خير وطلب منها الهدوء وألبسها ثوب السكينة، فامتثلت العروس لأمر عريسها وغطّت نفسها بأخيها الذي كتم الأمر ولم يتركها حتى غادر الجميع.
د. أحمد مصطفى