نافذة على الوجع

في الحارة العتيقة، وفي شارعٍ متوسط السعة، تمتد على جانبيه عمارات قديمة شبه متداعية ومهجورة، كان يقبع في مكان نافذة تناثرت أطرافها، وبقيت كوة، بالكاد تسع جسمه النحيل، عندما يلفه ويتكور واضعًا وجهه تجاه الشارع، ممررًا عينيه المتعبتين على الرائح والجاي دون أن يتفوه بكلمة نابية أو يؤذي أحد، مع أنهم ينعتونه بالجنون.. ومع ذلك فإنه يفزع الصغار دونما قصد، وهذا ما يضايقه كثيرًا فيتألم.
هذه المرة وقعت عيناه على أمرٍ غير متوقع؛ عندما رفع رأسه واتجه بنظره نحو الجانب الآخر من الشارع، هاله المنظر، فرك عينيه ليتأكد: إنها هي، لا أحد غيرها، من جاء بها إلى هنا؟ وماذا تفعل في هذا الحي المتواضع. وهي الفنانة المليونيرة المشهورة! إنها هي بشحمها ولحمها، تروح وتجيء في الشقة المقابلة.. تقف طويلًا أمام المرآة ثم تتحرك باتجاه آخر.. تضع إناء القهوة على النار ثم تتجه نحو النافذة، وتضع كفها على حافتها، وتترك الكف الآخر يعبث في شعر رأسها غير المرتب، ثم ما تلبث أن تتراجع بسرعة وتختفي، ثم تظهر وبيدها الفنجان وقد تطاير منه خيط دخان رقيق وطويل ينزل إلى الشارع ويباشر حواسه.. يحاول أن يتذكر منذ متى لم يشرب قهوة حتى ولم تكن بهذه القوة والنفاذ، لا يتماهى مع هذا الهاجس طويلًا.. يشعر بالخجل لأنه يحدق ويراقب امرأةً غافلةً دون علمها، عدَّه نوعاً من التلصص، فنكس ببصره نحو الشارع وفي ذهنه صخب السؤال: لماذا جاءت إلى هذا الحي البائس؟ هل أفلست؟ ماذا تفعل هنا؟ ولماذا لم يرها طيلة الأشهر الماضية؟ وهو القابع في هذه الكوة التي تطل على الحركة والضياء والضوضاء في الشارع، وعلى العتمة والفوضى والسكون في الغرفة، وما فيها غير حيطان وبلاط متكسر!
كان يختلس النظرات، لا ليمتع نفسَه بجمالِها الأخَّاذ العابر للمسافات، ولكن ليتأكد أنها هي؛ النجمة التي يعرفها الجميع. شعر بالخجل عندما تلاقت عيناهما، فنكس برأسه إلى الأرض مرة أخرى، بقي على هذه الحال حتى نسي الشقة المقابلة ومن فيها.. لفَّ جسمه بحيث ترك ظهره إلى الخارج، وصدره إلى الجدار، ووجهه نحو الغرفة، ثم وضع يديه على حافتي النافذة، وانزلق مع المسافة الباقية من الحائط ليلامس أسفلت الشارع المتآكل، اختل توازنه على غير عادة، وكاد أن يسقط على ظهرة، ولكنه استطاع ان يعيد توازن جسده المنهد والمنهك، ثم قام يترنح كالسكران.. ومع أنه ظل يفكر بالمرأة الغريبة التي دخلت الحي، وحركت البحيرة الساكنة في عقله، الا أنه لم يرفع رأسه مرة أخرى نحو النافذة المقابلة المشرعة.
وماهي الا خطوات حتى رأى رجلا في كامل أناقته ينظر في الجهة الأخرى حيث النافذة المفتوحة، حدق فيه كثيرًا.. ظن أنه يعرفه.. هذا الوجه والقامة والملامح ليست غريبة عليه، إنه صديقه القديم، ناداه:
– شخبوط.
لم يلتفت اليه، نادى مرة أخرى:
– شخبوط.
تجاهله وكأنه لا يعرفه، فما كان منه إلا أن اقترب منه عازمًا على أن يبصق في وجهه، ولكنه تراجع عادًا ذلك مبالغة في الإهانة ولا يليق به، وبدلًا من ذلك رفع يده وألقى بكفه بقوة على الصدع المائل.. هوى شخبوط إثرها على أرضية الإسفلت المتآكلة، أما هو فمضى لا يلوي على شيء.

الكاتب عبد الله العرفج

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *