تنويه: تمت كتابة المقال في أواخر شهر أكتوبر وعليه فإن الأحداث المذكورة تقتصر على التاريخ المذكور.
يتشابه نتنياهو مع من سبقوه فكلهم تقاطعوا في كَونهم لصوص مارقين تربوا على الوحشية والتنكيل بالأبرياء ببربرية لا مثيل لها. اجتمعوا على سرقة الأرض، التراث وحتى الثقافة الفلسطينية.
فكيف لمن سرق والده منزل الطبيب توفيق كنعان في حي القطمون المقدسي أن يقبل بأي حلول سلمية؟
تَشَبَعَ نتنياهو الكراهية والوحشية والتعطش للدماء من والده وأسلافه المارقين، فما نراه اليوم ليس سوا نتاج عقود من التحريض على قتل الفلسطينيين واقتلاعهم من ارضهم وها هو ينتهز الفرصة لإبادة مئات العائلات لعلمه المسبق أنه لن ولم يُعاقب دوليًا، كما أنه يسعى لإشباع غريزته الدموية وشريعة البلطجة التي شَبَ عليها وتشربها من أسلافه.
لم يكن طوفان الأقصى وحده ما يُؤرق نتنياهو فأطماعه الداخلية بتكوين نظام شمولي يُتيح له أن يكون الآمر الناهي ببُعد دكتاتوري، جعله يُقدِم على ما وصفه “بالتعديلات القضائية”، لكن هذا رفع أصوات المعارضين له ورفع حدة الاحتقان بالداخل الصهيوني مما جعل كثير من سياسيي إسرائيل وعلى رأسهم إيهود باراك، يحذر من اندثار المشروع الصهيوني برمته مُعرجًا على لعنة الثمانين التي طالما فتكت بدويلاتهم تاريخيًا، التي انهارت من الداخل قبل انهيارها كنتيجةٍ لصدامات سياسية. فبدأ السخط يعلو داخل صومعة نتنياهو وإزدادت وتيرة الإحتجاجات المطالبة بإسقاطه واصفين إياه بمُقوض الديمقراطية تارة والشمولي تارة أخرى.
ليأتي طوفان الأقصى ليُثخن جراح نتنياهو أكثر ويزيد سخط المستوطنين عليه خصوصًا أن دورته شهدت حدثًا لم تشهده إسرائيل قط ابتداءً بالفشل الإستخباراتي الأمني الساحق حتى الصعيد السياسي الإداري الذي يصفه حلفاءه قبل أعداءه بالمتخبط. لكن نتنياهو وحده من يرى أنه لم يخطئ فنراه يحمل المؤسسات الأمنية أوزار الحرب ويتنصل من المسؤولية كعادته، كما أنه شكل حكومة الطوارئ مع أحزاب أخرى للتنصل من مسؤولية أي هزيمة مستقبلية، إنطلاقًا من مبدأ المسؤولية المشتركة ما دفع يائير لابيد و أفيغدور ليبرمان لرفض مقترحات نتنياهو ورفض أن يشاركوا في هذه المتاهة.
وها هي تَبِعات الطوفان تلقي بظلالها على نتنياهو فجُل القطاعات الحيوية تضررت بفعل التعبئة العامة التي اقتلعت الفئة العاملة من الشركات الحيوية وقوضت عمل قطاعات أخرى.
لنبدأ ببورصة تل أبيب التي خسرت ٢٥ مليار دولار من قيمتها كخسارة أولية قابلة للزيادة، ناهيك عن ٧٥ مليار ضُخت من احتياطي النقد لدعم الشيكل الذي تهاوى أمام الدولار الأميركي، أما قطاع السياحة فلا يحتاج أن نتكلم عنه فهو في عداد الأموات فمن سيأتي للإستجمام وسط بركان ثائر ويُعد قطاع التكنولوجيا من أكثر القطاعات التي يعتمد عليها اقتصاد الكيان، ها هو أيضاً يتأثر لفُقدان اليد العاملة مما يُهدد بإنهاء تعاقدات وفسخ عقود تصدير كثيرة، بل يمكننا الحديث أن الاستثمار الأجنبي برمته بخطر كَون إسرائيل لم تَعُد وجهة آمنة بعد ٧ أكتوبر. الموانئ والمطارات ليست أفضل حالًا فالملاحة معطلة بشكل كبير وتم إلغاء آلاف الحجوزات وخرج ميناء عسقلان عن الخدمة والذي يُعتبر من أكثر الموانئ إستراتيجية خصوصاً عندما يتعلق الأمر بالواردات النفطية.
أحد أكبر مؤشرات الركود الاقتصادي والذي لم يكن بالحسبان أبدًا هو النزوح الداخلي الذي يستنزف الخزانة الإسرائيلية جنبًا إلى جنب الإنفاق العسكري وفاتورة الاجتياح البري الباهظة على كافة الأصعدة.
ليس هذا فحسب فإن طوفان الأقصى زاد من تَعمُق الانقسام الداخلي في إسرائيل مما أفقد المستوطنين الثقة بالمؤسسة الأمنية التي طالما كانت السبب في شعور الأمان للمستوطنين لعقود. لم يقف الأمر عند هذا بل عزز الوضع تنامي نشاط مؤسسات مثل “سنغادر البلاد معًا” التي تُقدم بدورها كافة التسهيلات للمستوطنين من خلال عرض إعلانات لعقارات في كُبرى الدول الأوروبية وتُشجع الكثيرين من خلال تقديم المشورة بكل ما يتعلق بالحجوزات وغيرها، ما دفع الكثيرين للحديث عن ما يُسمى “الهجرة العكسية” خصوصا بعد ظهور تقارير نشرتها صحيفة “ذا ميرور” تكشف رحيل ما يقارب ٢٤٠ ألف إسرائيلي منذ ٧ أكتوبر شَكَلَ سكان غلاف غزة قسم كبير منهم وذلك بصورة مؤقتة أو حتى دائمة بعد فقدان شعور الأمن، الذي لم ينجح نتنياهو رغم ما خلفه من دمار، قتل وتشريد على إعادته.
فما دُمنا نتكلم عن الانقسام الداخلي فلا يمكننا تخطي حقيقة أن إسرائيل فشلت فشلًا ذريعًا في محاولة تسويق سرديتها الإعلامية للحرب، مما دفع نتنياهو لحل وزارة الإعلام التي لم تنجح في إبقاء الرأي العام الغربي لصالحها وبدأ ينحسر تأييده بصورة مقلقة، رغم إِتباع إسرائيل الكثير من الأساليب ومنذ زمن لتسويق سرديتها مثل تجييش طلاب من نُخب الجامعات الإسرائيلية لإنشاء قوة مضادة تساهم في زيادة التأييد في الأوساط الغربية لإسرائيل بميزانية إبتدائية وصلت لمليون دولار. حتى أخر ما حاولته المؤسسات الرسمية الإسرائيلية من خلال إعلانات مدفوعة على منصة x من أجل رفع مستوى الوصول لمنشوراتها، لم يسحب سيطرة غزة والدمار الحاصل فيها على هاشتاغات المنصة، التي تعد من أهم وسائل التواصل الإجتماعي إذا ما تعلق الأمر بتشكيل الرأي العام.
كل هذه الخسائر والهزائم المتعاقبة لم تجعل نتنياهو ينثني عن العملية البرية في غزة، لأنه ببساطة يسعى لإبقاء أذنيه القبيحتين خارج أسوار السجن غير آبه بالخسائر الذي تكبدها جيشه ولا زال يتكبدها حتى الأن على صعيد الآليات العسكرية والجنود، رغم تحذيرات الأميركيين الذين لم يُخفوا تخوفهم من عملية كهذه وراحوا يحذرون نتنياهو من عواقبها وما قد تحمله من مخاطر. وكانت تحذيراتهم بناءً على التجربة الأميركية الفاشلة في فيتنام حيثُ أنفاق هانوي التي تظهر في غاية البدائية أمام شبكة أنفاق غزة العنكبوتية التي تتربع على كامل جغرافية القطاع، فتلك البدائية في هانوي لم تمنع هزيمة ثقيلة عن الأمريكيين، الذين رغم قتلِهم لملايين الفيتناميين لم يقصموا ظهر المقاومة الشعبية في فيتنام التي اصطادت جنودهم إصطياد وقتلت منهم قرابة ٨٠ ألف.
وكل هذا في محاولة من الأمريكيين لتجنيب طفلهم المدلل من دفع نفس الفاتورة ومن دخول حقل ألغام مشابه ولسان حالهم يقول من كان أفضل منكم لم يغلب البدائيين فما بالكم فاعلين أمام من أعدو العدة. ها هو الميدان يثبت صحة مخاوفهم فما نشاهد من الفيديوهات التي تبثها المقاومة إلى جانب تصريحات منها وردود الفعل عليها، تثبت أن خسائر إسرائيل فادحة على كل الأصعدة فيكفي أن نذكر أن كتيبة دبابات من “نوع ميركافا” قد تم تدميرها الى جانب العديد من ناقلات الجند “نوع بانتر” وجرافات عملاقة بفعل “قذائف الياسين ١٠٥ “ المحلية الصنع.
فكان الميدان وسواعد المقاومين الميامين كفيلًا بتحطيم أسطورة أفضل الدبابات وناقلات الجند على مستوى العالم مثلما دمر أسطورة الجيش الذي لا يقهر في ٧ أكتوبر.
فهل سيُنتج تعنت نتنياهو وتقديمه مسيرته السياسية على كل شيء، موجات هجرة عكسية جديدة أم سينجح بالخروج من عنق الزجاجة؟
الكاتب والباحث محمود النادي