الحرب لا تحدد من هو صاحب الحق ، وانما تحدد من تبقى ” – برتراند راسل“
الحروب تحصد أرواح الكثير من الناس ولكنها تغير الكثير من أرواح الناس الباقين ، تصقلها وتنحتها وان كان نحتا موجعا في اللحم الحي ، ولكنها في المجمل تصنع ناسا مختلفين عن الناس ما قبلها .
تخرج المجتمعات البشرية من الحروب أكثر جمالا أو أكثر بشاعة ، كل ذلك يحدث بعد انتهاء الحروب ولكن في الحالة الفلسطينية التي عاشت الحروب والاحتلال لمدة تزيد عن قرن كامل يمكننا لمس التغيير بشكل دائم ويومي ، من يخرج الى الأسواق ويمشي في الشوارع ويركب سيارات التاكسي يلاحظ كيف صقلت الحروب الانسان الفلسطيني وربما حمته من ظواهر سلبية كثيرة عاشتها الشعوب التي لم تمر بتجربة مماثلة من الحروب والاحتلال ، نسبة التعليم في فلسطين من الأكبر في العالم ، نسبة التحرش قليلة جدا ، مدننا صغيرة وأقل وحشية من المدن العربية الكبرى ، نعم الى حد ما زاد الاحتلال من الفوضى وصنع انسانا فلسطينيا متمردا ولكنه صنع انسانا أكثر طيبة وأكثر صلابة .
كل ما سبق حدث ببطء عبر الأجيال ولكن الحرب الأخيرة على غزة ومن ملاحظاتي كإنسان يحاول يوميا مقاومة الحزن والغرق فيه ، بدأت تغيّر في المجتمع الفلسطيني بصورة إيجابية وملموسة رغم انها لم تنته ورغم كون مدة ثلاثة أشهر مدة قصيرة في عمر الشعوب ، ربما كرد فعل طبيعي على آلة الموت والدمار نجد الانسان الفلسطيني يريد أن يثبت أصالة معدنه وأنه الابقى والأكثر سموا وإنسانية .
من يمشي في شوارع المدن الفلسطينية هذه الأيام يلاحظ أن أرواح الناس باتت أكثر شفافية واكثر تضامنا ، الناس يقفون بنظام في طوابير انتظار الباصات ، أصبحوا أكثر لطفا في التعامل وأيضا اكثر جرأة في المطالبة بحقوقهم ورفض الظلم . أحب ان أشارك القراء قصة صغيرة حدثت معي خلال عودتي الى مدينة رام الله من مدينة نابلس .
في اليوم التسعين من أيام الحرب مازالت الطرق بين مدن الضفة الغربية مغلقة باستثناء محاور قليلة من الطرق الفرعية تحتلها حواجز الاحتلال ولا يعبرها الناس الا بشق الانفس بعد تفتيش مذل ، أصبحت الرحلة بين رام والله ونابلس التي كانت تستغرق سابقا حوالي الأربعين دقيقة تستغرق قرابة الأربع ساعات ، الامر الذي دفع سائقي سيارات الأجرة الى رفع التسعيرة بسبب طول الطريق وصعوبة الالتفاف عن عشرات الحواجز الاحتلالية .
كنا سبعة ركاب في سيارة التاكسي خمسة رجال وامرأة مسنة وطالبة جامعية شابة ، عندما بدأ التاكسي في التحرك سألت الطالبة السائق عن التسعيرة . ” ثلاثين شيكل ” قال السائق ، احتجت الفتاة وناقشته في التسعيرة وقالت انه مبلغ كبير مبالغ فيه وطلبت ان تنزل ، اقنعها الشاب الذي يجلس بجواري ان لا تنزل وان المسافة أصبحت مضاعفة ومن الطبيعي ان يرفع السائق الأسعار .السائق أيضا طلب منها ان تنتظر لترى بنفسها كم صارت الطريق طويلة وصعبة ، اجتزنا ثلاثة حواجز عسكرية ، وقادنا السائق في شوارع فرعية وعرة عبر الريف الفلسطيني الجميل ، تحدثت المرأة المسنة عن حياتها وعن ابنها كفيف البصر الذي أكمل دراسته الجامعية عن ذكائه وعن عمله في الصحافة ، قالت ان في قلوب الناس حسرة ولكن الحياة مستمرة وانها تبحث عن عروس لابنها ، ابتسمت لها الشابة وقالت بانها لا تنوي الزواج حاليا .
أربع ساعات في الطريق صنعت منا نحن ركاب التكسي عائلة صغيرة .إقتربنا من رام الله وبدأنا بجمع أجرة التكسي ، الرجل بجانبي اصر على دفع الأجرة عن الفتاة الشابة ، حاولت ان تعترض لكنه رفض ، قال بانها مثل ابنته ، جميع من في التاكسي قالوا بأن من واجبهم أن يدفعوا عنها الأجرة لأنها طالبة ولأنهم اكثر قدرة ماديا منها ، رأيت الامتنان في عيني الفتاة ، وشعرت بالفخر بسبب روح التضامن والشهامة ، أكيد كل ذلك كان موجودا قبل الحرب ولكنه أصبح اكثر واكثر خلال الحرب وصار اجمل لان الناس يفعلون ذلك رغم الموت والدمار وسوء الأحوال المادية .
فقط السائق لم يعجبني لأنني تمنيت لو تنازل للشابة عن فرق الأجرة . إعتبرته حالة شاذة لا اكثر وسط جو إيجابي بشكل عام .أحد الركاب عندما وصلنا الى رام الله دخل في النقاش مجددا حول الأجرة ، ولكن السيدة المسنة قالت له بأنه يكفي ما يحدث في غزة ، هدأ فورا .
نزلت من السيارة يملؤني شعور إيجابي ، شابة قوية قد تصبح ذات يوم رئيسة للبلاد تدافع عن حريتها وحرية الناس ، وشباب شهم زادت الظروف الصعبة من انسانيته .الحرب وحش ولكنها لم تصنع منا مجموعة من الوحوش بل تصنع كل يوم فرسانا حلوين حياتهم أطول من حياة قاتلهم وأكثر رقيا .
الكاتب خليل ناصيف
وكثيرة هي الامثلة في المجتمع الفلسطيني التي تظهر التماسك والتعاضد بين الناس. واعتقد هو من اهم اسباب صمود الفلسطيني امام تلك الازمات التي تورّطت بها دول عظمة على مدى قرون.