نحن حزينون يا يحيى..حزينون والحزن ينزّ من نهايات خلايانا كلّها….فرط الحزن المندلق على حوافّنا والمتسايل على جنبات أرواحنا يملؤنا يقينا بأن هذا الحزن شيء من ضريبة الطريق واستتبابِ المعنى في النفوس، حزينون حزن الفاقدين، وحزينون حزن المخذولين الذين تتكالب عليهم الدنيا ويبتسمون وسط هذا الحزن ليقينهم أنها ضريبة الطريق وأنها الفلسطين..وأنها القدس…وأنه الخطاب الرباني الذي انغرس في نفوس هؤلاء الذين ما تنكبوا عن درب اختاروه، ولا توجّعوا من جرح اصطلوا بناره.(الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا).
لسنا حزينين لفقد عزيز ولا لغياب قائد ولا لخيانة ثورة ولا لخذلان أمّة وتآمر أنظمة ومشاركة واصطفاف ثلّة منافقين، مع أن كلّ ذلك مبعث كلّ حزن يمكن أن يراود الروح فيتركها لائذة في صمتها ومداراة دموعها.
نحن حزينون على الذين لا يحزنون معنا، وقد غرّتهم الحياة الدنيا وملأتهم الدعايةُ دعابةً، والهزيمةُ زهوا، والانكسارُ سكرةً. مغيّبون …ضائعون، لا يجمعهم دربٌ ولا تظلّهم راية، الدرهم والدينار ثوابتهم، وتبنّي استراتيجيات الخنوع مشاريعهُم. كيف ينامون بعد أن يقولوا ويكتبوا في يحيى ورفاقه ما لم يقله مالك في الخمر؟!! كيف ينساقون مع القطيع في ظل هذا العدوان الفظيع..كيف؟!
نحن حزينون على الذين يفرحون لحزننا، وفي قرارة أنفسهم يضيقون ذرعا بكلّ ألم يصيب عدوّنا، وينتظرون أن ينتصر على ضحاياه، يحمّلون الضحية مسؤولية انهيار البنيان وقتل وحرق الناس ويغمضون قلوبهم عن حقيقة أنهم مستعمَرون، محتلون، منتهَكون، مثقوبون..وقد وضعت كل نواميس الأرض والسماء طبيعة وأسس العلاقة بين المحتلين..والمحتلين، لكنه الثمن الذي يضنّون به والسّراب الذي ينخدعون به، هو الذي يجعل من هذه الدنيا حياتهم…ومن هذا السراب ماءهم الذي يتعطشون.
نحن حزينون يا يحيى على الذين لا يعرفوننا ويتهموننا في أعز من وهبنا الله، في عقيدتنا ويقيننا واصطفائنا مرابطين في هذه الأرض، مع أننا توقعنا أن نُزاحَمَ على حقّ الرباط في عسقلان وما حولها، لكنه العمى الذي يغشى القلوب ويعمي البصائر.
نحن حزينون على الذين ذاقوا الشهد دون أن يجربوا وخز إبر النحل ثمّ لاموه على رفعته، وهم المنكبّون ذبابا على الكؤوس (يتحدثون عن النبيذ معتقا//وهم على سطح النبيذ ذباب)
لم تكن إذن في أعماق الأرض يا يحيى، ولم تكن من حولك غانيات ولا أطباق وكؤوس، ولم تكن مفخّخاً محاطاً برهائن تتخذهم دروعاً بشرية تحمي نفسك بهم، كنت حيث أحببت أن تكون وحيث يطيب لك أن تقضي في الساحات التي تمنّى ابن الوليد أن يقضي بها على ما بجسده من جراح وضربات وطعنات. أخذت السلاح بقوة وقد أوتيت الشجاعة والنخوة صبيّا، حياتك آية، ورحيلك آيات، طوفانك ملحمة وتشرينك ملاحم: فيه ولدت وفيه سجنت وفيه حررت وفيه دلقت طوفانك..وفيه تقضي وتمضي ويدك الملوحة معلقة في السماء تلوّح لأهل الأرض أن لا تتركوا لعدوكم أن ينتشي لحظة أو يركن لضعفكم لحظات…
نحن نفتقدك يا يحيى… كما افتقدنا يحيى الأول ..ومثلما نبت الزرع من بعده ثمرا عيّاشا ستنبت الأرض من بعدك نوّارا لا يحتاج لدعاية عطّار ما دام المسك منه يفوح.. فسلام عليك يا يحيى..حين ولدت..وحين سلكت الدرب وعبّدت الطريق..وحين لوحت آخر تلويحاتك في وجه الغزاة..وحين مضيت شهيدا.
الشاعر حسان نزال