نصف انسان قصة قصيرة للقاص عبد الصمد الشويخي

في زيارةٍ مفاجئةٍ لطبيبها الخاصِّ لمتابعةِ فحوصاتها للاطمئنانِ على سلامةِ جنينِها أبلغها الطبيبُ في أسًى وضيقٍ: سيولدُ الجنينُ مشوَّهًا فانظري ماذا ستفعلين بشأنه؟!

دار عقلها وجُنَّ جُنُونُها من هولِ المفاجأة، وجالت بخاطرها كُلِّ الحالاتِ الَّتي رأتها من قبلُ لأمهاتٍ قُمْنَ بعمليات إجهاضٍ أو إسقاطٍ للأجنةِ فقد كانت متخصصةً في الإرشاد والتَّوجيهِ النَّفسيِّ لمتابعة النِّسْوةِ اللاتي يخضعن لعملياتٍ من ذلك النَّوع وتأهليهنَ نفسيًّا. والآن ستصبحُ هي وَاحِدَةً منهنَّ ستضع حملها سَقْطًا؛ لأنَّها لا تريده معاقًا مُشَوَّهًا فقد كان يخيل إليها أنه سيكون عبئًا يجب عليها التَّخلصَ منه قبلِ مجيئه؛ فعجَّلت بإسقاطه ثم طلَّقها زوجها فاسودت الدنيا أمامَ عينيها فقدت معاشها، وعَقَّها زوجها، وضاقَ بها الحالُ؛ فاضطرَّت للسَّفر للمملكة العربية السُّعوديَّة لممارسةِ عملها هناك، ومتابعة المزيد من الحالاتِ التي أصبحت هي واحدةً منهنَّ، ومرَّت بنفس التَّجرِبة وفي إحدى مستشفياتِ العاصمةِ المقدسةِ وأثناءَ متابعةِ حالةٍ من حالاتها وَجَدَتْهَا تبكي بكاءً مرًّا، وتندُبُ حظَّها كادت أن تنفجرَ حزنًا وتَبرُّمًا…أضحى وجهها مكفهرًا تعلوه صفرةٌ، وعيناها قد تحولتا شلَّالين من دموعٍ منهمرةٍ كسيلٍ اجتاحَ وجنتيها، وحفرَ فيهما أخاديدَ من ماءٍ وجمرٍ ورمادٍ، وقد شبَّكت ذراعيها حول رُكبتيها؛ فجرت إليها، واحتضنتها، وطفقت تلثمُ وجنتيها، وتضمُّها بقُوَّةٍ؛ لتستعيضَ بها ما فقدته من حنانِ هذا العالم و تهربُ من قسوتِهِ الَّتي ألقت بها في مهاوي الرَّدى وأفقدتها كُلَّ متكئٍ كانت تتكأ عليه، وسلبتها عكازَها وبَرِّ أمانِها، وحرمتها من يدٍ كانت تحنو عليها، ومن حِضْنٍ كان يضمُّها ذاتَ يومٍ كانت تراه عالَمَها كلَّهُ، وحصنها الحصين لم تتخيل أن يتخلى عنها لمجردِ تخليها عن جنينٍ لم يكتملْ نُمُوهُ بعد… قد خافت أن يكون سببًا لعذاباتها فوأدته قبلَ أن يرى الحياة، ودون أن ترى عيناه نورَها، وظُلْمَتها… لم تتحملْ خيالاتها التي صوَّرته كطفلٍ مُقْعَدٍ في كرسيٍّ متحرِّكٍ لن يبرحَهُ، ولن يستطيعَ تناولَ طَعَامِهِ، ولا الإمساكَ بكوبٍ من ماءٍ، ولا قضاءَ حاجته دونما مساعدةِ الآخرين؛ لكنَّها بقيت مُشَرَّدَةً يتخبَّطُها طوفانُ الأحزانِ، وأضحت كدُمْيَةٌ بلا مستقبلٍ ولا أحلام. سألت مريضَتها: لماذا تَنْهَارِينَ، وقد انتهى الأمرُ فقد أسقطته قبلَ أنْ تُنْفَخَ فيه رُوحُ الحياةِ؟!

اعتبريه نَسْيًا مَنْسِيَّا…أنتِ لم تعانقيه يومًا، ولم تطوقيه بذراعيكِ… لم تهدهديه، ولم يناديك: (ماما)، ولم تسمعي صراخه، ولم تشاهدي عذب ضحكاته، ولم تزعجك آناته، وصراخه، وشدة بكائه… لم تشعري بوخز حركته، ولا بصعوبة ركلاته داخل بطنك لم تًحيكي له ثيابه، ولم تنظفي له ما اتسخ من ملابسه، ولم تطعميه بكلتا يديك، ولم تجسي نبضه، ولم تحسي بارتفاع حرارته، ولم يزعجك أنينه، واضطرابه في ليل الشتاء، ولا تَبرُّمِهِ من جفاف الْجَوِّ، وشِدَّةِ حرارته صيفًا، ولم تستقبله قابلة، ولم تفطمه فاطمة.

فأجابتها في حسرةٍ، وكأنَّ حزنَ العالمِ كلِّهِ قد تجمَّعَ بقلبها:( تمنيتُهُ ولو كانَ نصفَ إنسانٍ… !!!)

القاص عبد الصمد الشويخي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *