“نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب”: وصْلُ ما انقطع بين العرب والأندلس للكاتبة الصحفية غادة كلش

المقدمة


شاع كتاب” الأغاني الكبير” ل أبو فرج الأصفهاني أو “الأصبهاني” في تراثنا العربي والإسلامي، ورسَخَ في قراءاتنا ودراساتنا، طيلة عصور مديدة. وكانت له شهرة واسعة، وتأثير أكثر وساعةً، على صعيد تأريخ أمّهات الأغاني والأشعار والأصوات التي سادت، منذ عصر الجاهلية، إلى القرن التاسع الميلادي. وقد تأتّى ذلك من الجهد الجبّار الذي بذله أبو فرج، طيلة خمسة عقود من حياته، في وضع مؤلَّفه هذا، لتأريخ الموروث الوارد في الصوت والشعر واللحن العربي، ولتحويل الكتاب تاليًا، إلى أكبر مرجع هامّ في معرفة الآداب العربية وآداب المجتمع التي كانت سائدة في العصر العبّاسي.
لا نسوق هذا الكلام هنا، للإضاءة على كتاب ” الأغاني” الذي طبَقَتْ شهرته الآفاق العربية، ودخلت أصواته وأشعاره المباحث التراثية والأكاديمية. وإنّما نأتي على ذكر سيرته، كمقدّمة لذكر سيرة أثر أدبي موازٍ له في الأهمية والمقام، مُغاير عنه في الهوية والمرام، مُتماهٍ معه في البيئة والأيام، منافس له في التصوير والكلام، ومتوافق وإياه في الفن والغرام. هذا الأثر هو “نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” لمؤلّفِه الشيخ أحمد بن محمّد المِقريّ التلمسانيّ المولود في تلمسان في الجزائر (1578م -1631م). ولئن كان كتاب “الأغاني” موسوعة تراثية كبيرة، تضيء على الآداب العربية وفنونها قديمًا. فإنّ كتاب “نفح الطيب” هو موسوعة مهمة تضيء على الأندلس وتاريخها وآدابها وجغرافيّتها. وإنّ هذا الكتاب هو الجامع العريض لأسس تِبْيان الصلة الثقافية بين المشرق والمغرب، كما أنه أقْدَم كتاب أندلسي عرفته المطبعة العربية، حيث كان مَصْدرًا لأكثر ما عرفه المشارقة عن التراث الأندلسي، على مدى مائة عام ونيّف.(وفق ما جاء في الطبعة التي بين أيدينا والتي حققّها الباحث الدكتور إحسان عباس، وهي طبعة صادرة في ثمانية أجزاء عن” دار صادر في بيروت في العام 1968).


القيمة المعرفيّة للمَصَادِر


وتكْمُن القيمة المعرفية لهذا المرجع الضخم، في أنّ المقريّ قد نقلَ الكثير من مصادر مضامينه عن كتب مفقودة، ليست متاحة بيننا اليوم، وهي من مصادر الأدب الأندلسي القديم، ككتاب” مطمح الأنفس” لإبن خاكان، أو “خاقان” وكتاب” المغرب” لإبن سعيد. كما نقلَ عن كتب مهمة، ككتاب”الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة” وعن بعض مؤلّفات إبن الأبار.
لقد كان المقريّ، كغيره من المغاربة، “يحسّ مدى إهمال المشارقة للتراث الأندلسي والمغربي. وكان سبب ذلك الإهمال، قديمًا، الإعتداد بالثقافة المشرقيّة. أمّا في عصر المقريّ، فكان سببه ضعف الثقافة عامّة. وحسبُك – يقول الدكتور عباس في مقدمة الطبعة- أن تجد الوزير لسان الدين إبن الخطيب، وهو مَنْ هو في الأندلس، محتاجًا إلى منْ يُعرِّف المشارقة به، ويحدّثهم عن أخباره”.
لقد فكّر المقريّ في البداية، أن يكتب عن الوزير لسان الدين، ليعرّف المشارقة به. لكنّه وجد أنّ صورة إبن الخطيب” لا تتّضِح إلا على محمل من التطور الأدبي والسياسي الذي شهدته الأندلس. وقد تمكّن من تخصيص الجزء الأكبر من الكتاب، لرصد رحلة المغاربة إلى الشرق، ورحلة المشارقة إلى الأندلس والمغرب”. وفي هاتين الرحلتين، كان المقريّ يشعر أنه حلقة من تلك السلسلة الطويلة، خصوصًا، أنه إضطُرّ للرحيل عن الجزائر إلى تطوان، فالإسكندرية، فدمشق، ليستقرّ في القاهرة ويموت فيها. ويمكن القول إنّ المقريّ أمسك في متون كتابه ” نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب” بخارطة الطرق التي إنقطعت بين العرب والأندلسيين في عصره، كي لا تندثر الآثار التي عفّرتْ هذه الطرق. فقد انقطعت آخر صلة للعرب ببلاد الأندلس سنة 1016، وقد شهد المقريّ عن كثب هذا الإنقطاع، وسعى إلى تأريخ أهمّ ما كان في تلك الحقبة التاريخية، ضمن مستحدثات الأدب،عصر ذاك، والفكر والفقه والسياسة والجغرافيا والأحداث والحروب والنتائج التي رشحت عنها. كما يمكن القول إنّ معظم أجزاء هذا الكتاب، كان “ثمرة الزيارة التي قام بها أبو العباس(اللقب المعروف للمقريّ) إلى دمشق، حين تحدّث إلى تلامذته عن لسان الدين، ونقل الأخبار عنه والأشعار وشواهد التاريخ والحنين إلى المغرب. ولن نغفل هنا الكلام عن فضل تلامدة الشيخ المقريّ في دمشق، بالطلب إليه وضع
كتاب”نفح الطيب” وتدوين ما نقله وذكره عن الوزير إبن الخطيب، وعن علماء عصره ومشايخه ووزرائه، وعن مخاطبات الملوك والأكابر والوجهاء لإبن الخطيب وثنائهم العاطر عليه.
إنطلاقًا من هذا المطلب، أنجز أبو العبّاس موسوعته هذه، حيث تضمّنت قسمين رئيسيين:
القسم الأول: يتعلق بالأندلس وأخبارها ويضم ثمانية أبواب.
القسم الثاني: مخصّص للكلام عن لسان الدين بن الخطيب وأخباره وأحوال العلماء الذين تطرق إلى ذكْرهم. ويضمّ ثمانية أبواب أيضًا.

وقد تميّزت كتابة إبن المقرّي بسِمات منهجيّة، حدّد لنا الكاتب فيها حدود المكان وبيئة الزمان اللّذين خصّهما بالتأليف. فالمكان هو بلاد الأندلس، والزمان هو الحقبة الزمنية التابعة لها في ذلك الأوان.
وبالرغم من كون الكتاب، أحد كتب التراجم، فإنّ مُؤلِّفَه إستطاع أنْ يجمعَ فيه بين منهج كتب التراجم وبين المجامع الأدبية، ذات الطابع الموسوعي. وقد حفلَ الكتاب أيضًا بما اتّصل بتلك الحقبة من نظُم وأشعار وموشّحات وأزجال، ومروحة واسعة من قصائد لسان الدين. كما حفل بمصنّفات مهمة في العلوم والفنون. وتضمّن وثائق قيّمة ومصادر هائلة في تاريخ الأندلس، على وجه الخصوص. وفيه كذلك، مجموعة قيّمة من المعلومات الأدبية والتاريخية والجغرافية. لذلك يُعتبر هذا الكتاب في مقدّمة المراجع المتعلّقة بتاريخ الأندلس، من أيام الفتح الإسلاميّ، إلى سقوطها في يد الإسبان.


لقد ردم المقريّ هوّة كبيرة، كان يمكن لتاريخنا الوقوع فيها، لولا أنّه دوّن كل هذه الوثائق والأخبار والمؤلفات والأشعار وحدود المدن وأسماء الأخيار والعلماء والملوك والوزراء والمشايخ، وجُلّ ما انطبعت به تلك الحقبة، في بلاد الأندلس، وفي المغرب والشام ومصر. “إذْ ضمّ إلى الخزانة العربية وثائق ورسائل، لولاه لضاع فيها الأدب العربي، ولخسرت فيها المكتبة العربية خسارة لا تُعوّض.”


نشأة المقري


نشأ المقري بمدينة تلمسان، وفيها أخذ دراسته الأولى على بعض الأساتذة، ومن بينهم عمه عثمان سعيد المقري، مفتي تلمسان إحدى العواصم العلمية في الشمال الإفريقي كما هي مدينة فاس.” فإذا تصفّحنا تاريخ نشأته – وفق ما جاء في مقدمة النسخة التي حققها الدكتور إحسان عباس- نجده زار مدينة فاس لأول مرة سنة 1009 هجرية، ثم زارها مرة أخرى سنة 1011 هجرية. ولم تمض مدة طويلة، حتى كان من المقربين إلى سلطان المغرب، زيدان بن المنصور الذهبي السعدي، الذي كان من عشاق الكتب الرفيعة النادرة الوجود، ومن أكبر الملوك المشجعين للعلماء والأدباء، فوجد المقري في المكتبة السلطانية منهلا عذبا ممّا أشبع نهمه في تثقيف نفسه ثقافة صحيحة.
وزيادة على هذا، فقد ولاّه زيدان الإمامة والخطابة بجامعة القرويين، كما ولاّه الإفتاء، وناهيك بمفتي مدينة كمدينة فاس عاصمة المغرب وقلبه النابض.
وفي سنة 1027 هجرية غادر المقري فاس قاصدا الشرق، ويرجع رحيله إلى الفتن التي قامت بين أبناء المنصور بعد وفاته.
وقد عانى في طريقه إلى الشرق أهوالا عظيمة من هيجان البحر واضطرابه. وكتب عن هذه التجربة المهولة:” وركبنا البحر وحللنا بين السحر والنحر، وشاهدنا من أهواله وتنافي أحواله ما لا يُعدّ ولا يُبلغ كنْهه.”


وراح ينشد:
البحر صعب المرام جدا لا جعلت حاجتي إليهِ
أليس ماء ونحن طـين فما عسى صبرنا عليهِ
أمّا القسم الثاني، فقد أفرد فيه المقريّ، “مراحل النزاع العنيف الذي نشأ بين الأندلس العربية وإسبانيا النصرانية، والذي انتهى بخروج العرب من بلاد الأندلس. مُعتمدًا مسارا لغويًّا بلاغيًّا في إنجاز أبواب الكتاب بقسميْه، مُرتّبا عناصر المعلومات والمراجع والتراجم، ترتيبا حسنا، متغلغلاً في التفاصيل، مُتعمِّقًا في تتبُّع أخبار المترجمين، ذاكرًا مؤلفاتهم وتصرّفاتهم في الحياة، وعملهم في خدمة السلطان.


وقد امتاز أسلوبه بالقوة وببلاغة ساحرة، في وقت كان الأدب العربي في مرحلة الإنحطاط الشهيرة. أما نثره فيمتاز بإشراق الديباجة ومتانة المبنى والقدرة على التصرف في استعمال اللفظ، وهو أقرب في نثره إلى طريقة الأندلسيين منه إلى طريقة المشارقة.”
حدود الاميال والايّام
أعطى المقري أهمية كبيرة للجغرافيا في كتابه “نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب”، فتحدّث عن المدن الأندلسية وسكانها، وذلك بعد أن “حدّد مفهوم كلمة (أندلس) إعتمادًا على أقوال بعض المؤرخين، ثم قام بوصف مناخ تلك البلاد، وبيَّنَ مساحتَها وحدّدَ أراضيها وأوّل مَنْ سَكنَها. والواقع أنّ المدينة هي المكان المستقر الذي يقع فيه الحادث، وفكرة المكان هي أبسط ما توحي به الجغرافيا، لذلك فإنّ الحديث عن المدينة أو المكان، هو توطئة وتكملة للحادث، وإنّ تاريخ الإقليم المحدد،هو تاريخٌ مرتبط ببعضه بعضًا، في وحدة متكاملة، أي إنّ الحادث مرتبط أشدّ الارتباط بمحيطه. أمّا السكّان فهم المتسبِّبون في الحادث الفاعلون فيه. ودراسة المكان وسكّانه تتمثّل في الوصف والتّعليل وربط كل ظاهرة بشرية بالعلاقات التي تربطها بالوسط المحيط.

وعن قرطاجة يقول على لسان صاحب مناهج الفكر في الحيل لإبن مرزوق: “لها فحص طوله ستة أيام، وعرضه يومان معمور بالقرى”. وعن بلدة أكشونية التي هي من أعمال شِلب، يذكر أنّ بينها وبين قرطبة مسيرة سبعة أيام. وعن محيط مدينة سرقسطة يقول: “والبساتين محدقة بها من كل ناحية ثمانية أميال، ولها أعمال كثيرة: مدن وحصون وقرى، مسافة أربعين ميلاً. فالمسافات عند المقري تُحدَّد بعدد الأيام حينًا، وبالأميال حينًا آخر، وذلك هو المتعارف عليه في ذلك العهد. فيُذكر أنَّ أهل الأندلس هم من أحرص الناس على التميُّز في فنون العلوم، وأنّ الجاهل منهم “الذي لم يوفقه الله للعلم، يَجهد أن يتميز بصنعة، ويربأ بنفسه أن يُرى فارغًا عالة على النّاس، لأن هذا عندهم في نهاية القبح. والعالِم عندهم من الخاصّة والعامّة، يُشار إليه ويُحال عليه، ويُنبَّه قدره وذكرُه عند الناس، ويُكرَم في جوار أو ابتياع حاجة وما أشبه ذلك”
عند هذا المقام في ذكر كتاب ” نفح الطيب” الكبير، لا بد من الإشارة إلى الغاية التي حثّت المقري على وضعه، والصحيح أنه وضعه لغرضين أساسيين:


الأول: تعريف أهل المشرق بالأندلس وأهلها.
الثاني: تحديا منه لعلماء مصر الذين كادوا له. حيث إستقى مجده من معلوماته الغزيرة، وحافظِته وشواهد فكره ونظره. ناهيك عن الكتب النادرة التي إستقى منها ما استقى.
خصائص كثيرة تميز بها كتاب “نفح الطيب من غصن الاندلس الرطيب” فهو مصدر لأدب السيرة الذاتية، وفيه ثروة غزيرة من شعر أهل الاندلس ونثرهم. لذلك تضمّن آراءً نقدية تنحصر في موضوعات عديدة، جاء بها الادباء والنقاد الاندلسيّون. وتتركّز أيضًا قيمته في محاولة إعطاء الاندلس، مكانه جديدة بين الدول الاخرى، من الناحية الادبية. كما إنّ المادة التاريخية التي تضمّنها هذا الكتاب والمختصة بالأندلس، كانت ذات أهمية كبرى في الدراسات التاريخية التي تعلقت بتلك البلاد. ” فمحاسن الأندلس- يقول المقريّ- لا تُستوفى بعبارة، ومجاري فضلها لا يشق غبارُه وأنّى تُجارى، وهي الحائزة قصب السّبق في أقطار الغرب والشرق”.
إنّ أعمالاً كالأعمال التي أتى بها كبار الأدباء والمحققين والمؤرخين العرب، في سالف العصور، قدّمت لأجيالنا العربية والإسلامية، الخدمات الحضارية الباهرة. فأين نحن اليوم منها؟ وما هي الصلات التي يمكن لمفكريّنا المعاصرين المشارقة منهم والمغاربة، أنْ يحدِّدوها وأنْ يصلوا فيما بينها، في خضمّ طفرة هذه العوالم المتداخلة والمفتوحة على أكثر من هويات تكنولوجية وأكثر من خلاصات عولمية هجينة؟ ذلك هو التحدي الكبير الذي ينتظرناعلى حافّة التاريخ وأرض المستقبل.

الكاتبة الصحفية غادة كلش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *