نَم في سلام للكاتبة الإعلامية يارا فريج

“نموت واقفين ولا نركع، ومثل ماحكيت، مابيبقى في الوادي إلا حجارتو، واحنا حجارتو”

(ضمير الغائب ) في السابع عشر من أيلول عام 1974 وفي تلك البقعة الجغرافية الجميلة في مدينة جباليا شمالي قطاع غزة كانت تلك المرأة العظيمة تختلس النظر لسماء المدينة تصغي لموسيقى الطيور وتحدق بملامح السماء الصافية وزرقتها الجذابة شعرت أن الغيوم تبتسم لها وتهنئها بولادة طفلها .. فكانت هذه الصورة ملتقطة بعيون الأمومة ومخزنة في مخيلتها في شرائط الذكريات العتيقة شعرت بأفراح عارمة عمت المدينة وكأن الفرح ساد كل الأحياء حتى أنها كادت تلمسه في وجوه كل من رأتهم يومها


فما الذي حدث ذلك اليوم ومن هو الطفل الذي سعدت المدينة بقدومه وأحبته منذ ميلاده ؟.
في هذا اليوم شهدت المدينة ولادة هالة ماسية سطعت في حلكة ظلمات الحروب قامة عملاقة من قامات النجاح الفلسطينية أيقونة الابداع والرحمة وإن كان للنجاح والتميز أنامل ستشير بها إلى اسم الطبيب (عدنان أحمد عطية البرش) ..
بدأ البرش تعليمه في مدرسة الفالوجا وأكمل تعليمه في ثانوية حليمة السعدية وحلق به شغفه العلمي لسماء رومانيا فحصل على شهادة البكالوريوس في كلية الطب من جامعة يانش ولكن طموحه يفوق هذه الشهادة حجماً فعاد ليكمل تخصصه في جراحة العظام والمفاصل وحصل على البورد الأردني و البورد الفلسطيني ونال أيضاً الزمالة في الجامعة البريطانية في جراحة الكسور المعقدة من جامعة لندن والشهادات الجامعية الحاصل عليها الطبيب البرش من أشهر جامعات العالم لا تقل أهمية عن شهادة أهالي القطاع بحق نجاحه .
فكل آمال القطاع بالنجاح اصطفت وتجسدت في عبقرية هذا الرجل الذي استطاع أن يصنع لنفسه اسماً من ذهب وتاريخاً مرصعاً بجواهر النجاح ..


هو رجل معطاء رحيم أفنى عمره في خدمة الوطن وأبناء الوطن يمكنك تسميته ملاذ الفقراء فأرشيفه المهني حافل بعمليات جراحية مجانية لمن لا يملك ثمنها
ويكفي تسليط الضوء على موقعه الجغرافي ليدرك الجميع حجم نجاحه فلا يمكن لأحد الاستهانة بنجاح طبيب في العدم الطبي .
لم يستثقل يوماً مزاولة مهنته في واقع طبي تعيس كواقع قطاع غزة المحاصر هو من برهن للعالم أن الإخلاص في المهنة ينتصر على شح الإمكانيات الطبية وكالمطر سقطت نتائج عملياته في صحراء الحصار ..


ومن خلال التمعن برحلته المهنية تستخلص جملة واحدة ( يكفي أن تكون إنسانياً بكل ما تحمله الكلمة من عظمة لتكون طبيباً ناجحاً ) ، فالطب مهنة تستدعي الرحمة والإنسانية وهذا السر وراء نجاح البرش إنسانيته المفرطة التي ميزت سمعته الطيبة وشهرته الواسعة في جميع المدن الفلسطينية المحتلة سيرته المعطرة بمسك الرحمة ورحيق الإنسانية.
وبعد أعوام من رحلة النجاح في ظل الحصار والعدم اختلفت المعادلة وبدأ برحلة جديدة هي رحلة صمود ونجاح في انعدام العدم
بعد ما شهده القطاع في الحرب الأخيرة رحلة صمود
بين الأبنية النازفة والأبواب المشرعة للموت الجماعي والموت العشوائي وأبواق تصدح بالخيبة وزحام الفجائع والشظايا والجثث والاشلاء ورائحة الدماء وصرخات شقت طريقها من تحت الركام ونحيب الثكالى وخوف الأطفال وقلة حيلة الكبار أمام أحقاد الاحتلال التي أشعلت الأرض جمراً و أشعلت القلوب قهراً بدأ رحلة صمود بين كل هذا الخراب حينما ركز الاحتلال على بتر أجنحة ملائكة الرحمة ظل يحلق بأجنحة الصمود في سماء غزة المنكوبة
كان كل اتكائه على حبه لوطنه وإخلاصه لشعبه وقوة انتمائه التي جعلته يتشبث بالأرض كما الشجر كما الحجر كما التراب ولو عدنا لآخر ما نشره على إحدى مواقع التواصل الاجتماعي لوجدت الدليل الحتمي على قوة تشبثه بأرضه فكتب ( نموت واقفين ولن نركع ومثل ما حكيت ما بيبقى بالوادي إلا حجارتو واحنا حجارتو ) .


لم يكن البرش أحد حجارته فقط كان أحد معالم المدينة وجزء لا يتجرأ من تاريخ صمودها في أحد بواسل المعركة مع الاحتلال فهو من واجه العدو بعلمه وانسانيته ومن مثله لا يركع من مثله يستقبل الموت واقفاً شامخاً كما الأشجار تموت واقفة .
ولو أمعنت النظر في صورة ملفه الشخصية لأبهرتك ابتسامته المشرقة كما فجر النصر ولسمعت صداها يردد ( أليس الصبح بقريب ) وكأنه يواجه بؤس الواقع بدرع التفاؤل برحمة الله والعدالة الإلهية التي ستنصف القطاع المنكوب ذات نصر .
آخر ما كتبه البرش لم يكن الدليل الوحيد على صموده وقوة انتمائه وإخلاصه لشعبه وكذلك آخر ما قاله في اتصاله مع إحدى المحطات التلفزيونية ( ادينا الرسالة والأجر على الله )
فليشهد الله أنه خير من أدى رسالة وليشهد العالم بأسره أن خير من يستحق أجراً وخير قدوة لكل العاملين في المجال الطبي .
فهو من رفض كل العروض المغرية مادياً في أشهر المستشفيات العالمية مقابل الأجر عند قاضي السماء .

ومقابل علاج الأبرياء ومن يستحق أن يدخل موسوعة غينيس من أوسع ابوابها بعد أن ضرب الرقم القياسي بإجراء ٢٨ عملية جراحية في يوم واحد في ظل الحرب الأخيرة .
وكذلك شهادة زوجته ياسمين التي برهنت صموده حينما طالت أذرع الإجرام الحي الذي يعيش فيه الطبيب ولم يذهب للاطمئنان على عائلته إلا بعد انهاء عملياته الضرورية
وحينما طلب منها ومن أولادهما مغادرة المنطقة وظل هو نصير الضعفاء يعالج الجرحى ولم يستجب إلى طلب الاحتلال بعد حصار المستشفى لمدة أسبوع بالتوجه لجنوب القطاع ظل على رأس عمله ولم يلبي سوى نداء ضميره بعلاج الجرحى إلى أن تم تهجيره عن عمله عنوة فسرعان ما توجه إلى مستشفى الاندونيسي ونجا من الاعتقال بعد مداهمة قوات الاحتلال لغرفة العمليات واستشهاد اثنان لكنه تعرض لإصابة
وعاد ليكمل رسالته متنقلاً بين مستشفيات القطاع قبل أن تقتحم قوات الاحتلال مستشفى العودة وتحوله من مكان لعلاج الأبرياء إلى مكان لارتكاب المجازر الشنيعة بحق الأبرياء والاكثر ألماً بحق الضعفاء العزل !


فكل مستشفيات القطاع تحولت إلى ساحة إبادة جماعية واعتقال تعسفي للطواقم الطبية مثل جرائمها في مستشفى الشفاء الذي حولته إلى مستشفى الشقاء !.
ومن براهين اخلاص البرش شهادة صديقه الطبيب حسام مدهون الذي رافق البرش قبل اعتقاله بساعات والذي نقل لنا المشهد بحذافيره من قوة حدس البرش التي أخبرته أنه لن ينجو مجدداً ومع ذلك لم يهرب ظل صامداً في وجه النار ورافق صديقه في تفقد أحوال الجرحى عن طريق الدرج ( السلم ) لأنه المكان الآمن من رصاص القناص لكن المستشفى كلها لم تكن آمنة من غدر الاحتلال وبعد ساعات من هذا الحدس صدق حدسه وتم اعتقاله إلى سجن العوفر الذي يصنف من أعنف واعتى المعتقلات في العالم ووفق بيانات نادي الأسير فإن الطبيب البرش قد تعرض لتعذيب قبل وفاته في التاسع عشر من ابريل الماضي ولم يعلن عن وفاته إلا بعد اسبوعين من حدوثها
ووفق بعض الشهادات المسربة من أسرى تم الإفراج عنهم من سجن عوفر جميعهم تحدثوا عن القسم (٢٣ )الذي يتم وضع أسرى غزة به وأصوات التعذيب واقتحام كلاب الاحتلال برفقة كلاب بوليسية للقسم أرأيت يوماً مجموعة كلاب تقود وتترأس كلاب أخرى ؟!
والجدير بالحزن قبل أن يكون جدير بالذكر البيانات التي تؤكد أن حصيلة الشهادة في القطاع الصحي في القطاع تصل إلى ٤٩٦ شهيد و١٥٠٠ جريج .


وكأن كل ما تفعله قوات الاحتلال وأد للكادر الطبي !
وبعد كل هذه الجرائم بحق الطواقم الطبية وبحق الأبرياء وبعد الصمت العالمي على ما يحدث
يمكنك أن تضيف إلى اللغة العربية تعريفاً جديداً للضمير الغائب
(الضمير العربي والعالمي هو ضمير الغائب )
وتبقى الكلمات موجهة إلى ضمير المخاطب إلى ضمير كل عربي شريف يناضل من أجل القضية ومن أجل نصرة المسحوقين
وفي العودة لقصة البطولة التي خاضها الطبيب بعد خمسة أشهر من التعذيب أيمكن لمخليتك تخيل أن من جبر كسور الضعفاء قد تكون عظامه مكسورة تحت التعذيب ولم تجد من يجبرها ؟!
بعد عدة شهور من التعذيب ترجل الفارس من علمنا أن الكفاح ليس بالسلاح فقط الكفاح بالعلم سلاح أخطر من الأسلحة النووية رحل من جعلنا نفخر أننا نحمل جنسية فلسطينية مثله ودم فلسطيني ثائر كدمه
فطوبى لأرض تلد الأبطال وتورث الثورة بالجينات.
وقد كتب في رثاء البرش الكثير منهم الناشط الفلسطيني عز الدين الشمالي كتب ( رحل من كان يكتب بعرق الجباه أفانين الاخلاص في العمل والتفاني في زرع الأمل رحل الصامد الصابر الذي خط أسطورة الفداء في مجمع الشفاء .
كما كتبت الناشطة رولا ( كان الدكتور البرش أحد فرسان هذه المعركة بكل جدارة واقتدار ) كما ناشد العديد من النشطاء أن تتحقق العدالة لروح الطبيب بفتح تحقيق دولي بشأن تعذيبه واغتياله الذي وصفه الكثير بالمتعمد .


لكن الوداع يبقى معلقاً إلى حين يحدث تدخل دولي حقيقي ينصف الطبيب بفتح تحقيق فوري.
وتبقى الأمنية الأخيرة لزوجته وذويه وكل من عرفه أن تحدث للشهيد مراسم وداع تليق بالفرسان أمثاله وأن يوارى الثرى في مسقط رأسه
ومن أسرة مجلتنا نشارك الشرفاء مطلبهم ونتمنى أن تتحقق العدالة بفتح تحقيق عاجل ونوجه رسالتنا الأخيرة للشهيد عدنان البرش
نم قرير العين أيها النبيل وإلى جنان الخلد أبلغ سلامنا وفخرنا وحبنا إلى كل شهداء فلسطين الحبيبة .

الكاتبة الإعلامية يارا فريج

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *