كطائر المالك الحزين الذي يعيش عند المستنقعات حتى تجف فيطأطأ رأسه فيعطي انطباع عن حزنه على جفافها، تماماً كما جفت مشاعر هديل وهي شابة بعمر الزهور..
كان من المفترض ان تزف عروساً للحب لكنها زُفّت عروساً للاحزان، تلك الفتاة الخارقة التي صبرت على الكثير من المآسي جعلت منها روايةً تُروى للشعوب العربية كلّها ..
تبدأ حكاية هديل ابنة مخيم جنين ذات ال ٣٠ عاماً في تاريخ ١١/١١/٢٠٢٢ ميلادي، اليوم الذي كان مقرراً لزفافها من خطيبها البطل محمد عبد الهادي الشاب المطارد من قوات الاحتلال منذ عشرون عاماً عمره الآن ٣٣ عام ذو بشرة قمحية اللون، لديه حزام للذقن وشارب يلتقيان ليشكلا دائرة يحددهما بآلة الموس الحادّة، شعره أسود فحمي قصير، يزين وجهه حاجبان عريضان كثيفان، كأنه السماء الحالكة ببدرها الأبيض، وما أعجب من أمر القمر عندما يتحول من بدره إلى محاقه، يسبح بفراغ الفضاء ليعلن بذلك اختفاءه عن مجال رؤيتنا المجردة وانتقاله إلى مكان جديد في السماء..
الساعة الحادية عشر صباحاً ساعات قليلة قبل الظهر، عُلّقت الزينة بأحلى الألوان وتجهزت أشهى الحلويات الساخنة المُشكّلة، نُصبت لوحة خشبية تحوي اسم العروسين “محمد و هديل” بخط ملتوي وجميل، العروس هديل تتزين في صالون النساء والعريس محمد في حفلة توديع العزوبية مع الشباب وفقرة حمّام العريس، كل شيء يمر كما خطط له ببساطة وسعادة وافرة..
إلى أن جاء الوحش الكاسر يختبئ خلف مدّرعاته وسياراته المصفّحة ليقضي على مستقبل الكثير من الشبّان ويكسر قلب الأمهات الفاقدات ويحطّم مشاعر الفتيات مثل هديل
بينما اكتملت تجهيزات هديل من صالون التجميل وذهبت إلى منزلها تنتظر استقبال محمد واهل العريس جاءت قوة كبيرة من جنود الاحتلال واقتحمت المخيم بذريعة القبض على المطلوبين من شباب المقاومة فجرت مواجهات في الحارة التي يسكن فيها العريس محمد بين قوات الاحتلال والشبان من أبناء الجيران المقاومين، فخرجوا جميعهم من حفلة حمّام العريس للمشاركة في التصدّي لهذا العدوان، وكانت مواجهات عنيفة جداً، فأصبحوا يطلقون الرصاص المطاطي وغازات مسيلة الدموع وقنابل صوتية تصفّر طبلة الأذن بشكل عشوائي مخيف،تعرّض محمد على إثر المواجهات الشرسة للإصابة برصاصة حقيرة اخترقت صدره أدت إلى وفاته مباشرة …
توقفت هديل هنيهة وهي تحكي لي قصتها ثم قالت وهي تستجمع دموعها لتصطف على خدّيها بخطّين متوازيين: فاستقرّت الرصاصة في منتصف قلب حبيبي نُقلوه الشباب إلى المستشفى الحكومي بالإسعاف، لكنه كان مستشهد، فما نفع المستشفى والكادر الطبي بعد أن انتقلت روحه إلى السماء …
تناولت كوب الماء وارتشفت قليلاً ثم أكملت الحكاية: أُصبت أنا بصدمة ولم أصدق ما حدث، فصرت أضحك وأقول لعائلتي بعدما أنزلوني عن منصة الفرح وأنا بالبدلة البيضاء وصارحوني بما حدث: ههههه هذا ليس وقت المزاح، هههه هل يوجد في رؤوسكم عقل أن تنزلوني عن كرسي فرحي لتخترعوا المقالب
الآن؟! ههههه مقالبكم هذه سخيفة جداً….
ثمّ أطلت النظر إلى وجوههم لآرى أمي بدأت تشهق وتبكي وأبي ينظر نحوي بأسف وشفقة وهو يشبك أصابعه ويجلس مقابلي
وأختي ركعت على قدميها أمامي واخذت تقبّل يداي وتقول لي: أختي أرجوكي تمالكي أعصابك، أبوس إديكي اصبري عرسه بالجنة أحلى، الملائكة رح تزفو شهيد عند ربنا …
قاطعتُ اختي بعصبية شديدة: خلص .. خلص … ليش هيك بتمثلوا؟
اعملوا مقلب بموضوع غير هذا، “لا تفاولو بالشر”
أنا ومحمد رح نتزوج ونخلف زين ويارا، إحنا هيك اتفقنا
خلص عاد … أنا رح استنى محمد على كرسي فرحنا لحد ما يجي ويخلصني من هبلكم..
وذهبت أعتلي خشبة المنصة المزينة بزينة العرس والاضواء الملوّنة وجلست على الكرسي وباقة الورد بين يديّ..
وما زالت عائلتي تبكي على حالها ..
ثمّ عدتُ إليهم وجسدي يرجف قهراً، ومسكتُ يد أختي وشددتها لتقف على قدميها وقلت لها: انتي ما بتفهمي! قلت خلص ما بدي هيك مقلب بأحلى يوم بحياتي! ما تنزعيلي فرحتي
وذهبت لأبي وقبّلت جبهته وقلت له: قوم الله يرضى عليك يا حنون هسا بيجوا المعازيم الزلام
ثم وضعت يداي على خصري وقلت لأبي مازحة: كم دفعولك مصاري علشان توافق تمثل معهم بالمقلب؟!
وانتي يا ماما كمان شو صار لحتى هيك بتعملي حركات ..
فقاطعتني تصرخ بوجهي: اتقبلي الي صار خلص .. محمد استشهد .. اسس .. تش … هد .. واذا مش مصدقة بدّلي ملابسك وتعالي نروح تشوفيه بالمستشفى ..
خارت قواي بعد أن تيقنتُ من الحقيقة الأليمة التي لامست قدري، لكنني فخورة بحبيبي الذي ترك كل شيء دنيوي وذهب لآخرته بالجهاد وتحدى واستمر بعناده في مقاومة الاحتلال وهذا على حدّ علمي شيء عظيم عند الله ..
وقال لي أصدقائه أن قبل استشهاد محمد بينما يقاتل بكل ما فيه من قوة كان يردد أبيات شعرية قالها الفرزدق:
لا تسقني ماء الحياة بذلةٍ بل فاسقني بالعز كأس الحنظل
ثم جائته الرصاصة فنطق الشهادتين حتى ارتقى قمراً إلى السماء …
واردفت بصوت متقطّع ينذر بالبكاء: ونظراً إلى خطورة حالتي النفسية التي وصلت إليها حيث فقدت الإحساس بالحياة وعشت في صدمة نفسية كبيرة كانت صدمة قاسية قاسمة للظهر بل قلب استشهاده وضع الأسرة كلها قهراً، كانت شهادته جرحاً لا زال ينزف في قلبي وروحي، وحدثت في جسمي أوجاعاً لم ولن تغادرني في حياتي، فذهبت لتلقي الجلسات العلاجية السلوكية عند أخصائي نفسي في مدينة رام الله بناءً على ترشيح معظم الأقارب بأن العلاج أفضل في رام الله، فانتقلت إلى المدينة واستأجرت بيتاً صغيراً من غرفتين ومطبخ وحمام صغيرين “على قد الحال المادي” .. مكثت هناك قرابة سنة للعلاج، وقد تعرّضت وأنا في المدينة إلى اجتياح بيتي الصغير كثيراً والعبث بمحتويات المنزل والأثاث واستفزازات كثيرة
وبعد غصة كاوية للقلب وتنهيدتين تابعت: حسبي الله ونعم الوكيل.. حسبي الله ونعم الوكيل ..
ثم ركزّت بصرها إلى الأرض بشرود دام لدقيقة واضافت بهدوء: لا يوجد شعور أصعب من شعور بحرارة الدموع على القلب بدلاً أن تكون أثرها على الخد، أن تكون لدينا ملامح متعبة بطريقة ساكنة، رغم كل هذا التعب واليأس علينا أن نقاوم خريف المشاعر، ونقاوم الغياب الأبدي لأشخاص أقرب إلى القلب من أنفسنا ونتصدى للوحدة والعزلة ولا نترك لهم المجال ليطرحو بنا الأرض، ونصمت كثيراً، لا يحق لنا الدفاع عن أنفسنا ولا عن مشاعرنا، وبالرغم الأسى الذي نعيشه علينا أن نبقى ثابتون كأغصان الزيتون الرومانية ونزهر نزهر فقط ….
الكاتبة ختام أحمد