هل صحيح أن أعذب الشعر أكذبه ؟!!
لا شك أن القرآن الكريم عندما قال في محكم آياته في أواخر سورة الشـــعراء ( و الشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون و أنهم يقولـون مالا يفعلون إلا الذين أمنوا و عملوا الصالحات ….. )) يشير إلى نقطة حسـاسة في ذاكرة الشعر تتمثل في فهم معنى ((أنهم في كل واد يهيمون )) أي: بأن وديان الشعراء التي يهيمون بها إنما هي خيالاتهم التي ينقلوننا إليها بفعل آلة التصوير لديهم فكم من شاعر نقلنا إلى عبقره الخيالي فأرانا ما لا نرى و أسمعنا ما لم نسمع و أذاقنا ما لم نذق طعمه و جعلنا نفارق أحبة و نعانق آخرين فإذا ما تركنا وادي خــيال الشاعر عدنا إلى واقعنا ، و لا يعتقد البعض أن الخيال مذموم فلولاه لما فتحنا آفاقـاً لتصور الجنة أو النار أو الميزان أو الحســاب و إنما المذموم من الخيــال هو المريض الذي يسترخي صاحبه فيه و يعتقد أنه واقعاً موجوداً من حوله و هذا مع الأسف ما وقع به شعراء قبيلة عذره فأصبحوا كغيرهم من المجانين الذين تلبسهم الخيال و هجرهم الواقع لكن الخيال الشعري الممدوح و المحبوب لدينا هو الخيال الذي ينقلنا إلى ساحة جديدة نســتمتع بمعطياتها و نتصور من خلالهـا الماضي أو الحاضر أو المستقبل و لا يكون الشعر عذباً إلا إذا حملنا على أجنحة المبالغـة فنحول الصور غير الممكنة إلى واقع متخيل يستحبه الإنسان و يسر إذا ما سـرح بين أشجاره .
يقول الشاعر أبو الطيب المتنبي واصفاً سيف الدولة الحمداني في معركة الحدث الحمراء التي هاجم فيها المسلمون الروم على مشارف الشام :
وقفت وما في الموت شك لواقف
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطـــال كلمى هزيمة
ووجهك وضاح و ثغرك باسـم
ما أكذب هذه الصورة و ما أجملها لأنها تصور الردى ( الموت ) ساحة قتال يقف فيها سيف الدولة بوجه ضاحك و ثغر بسام بينما تمر من تحت أقدامه الأبطــال هزيمة مجروحة . صورة تمس الخيال فما من إنســان إلا و يخاف الموت ولكن شاعرنا المتنبي صور سيف الدولة بشــخصية لا تهاب الموت بل تقف في عين الموت و هذا يعني المبالغة الزائدة في وصف صورة ســيف الدولة وهذا ليس كذباً إنما هو عذوبة في الكلام ،
و لو نظرنا إلى قول الشاعر المجهول الهوية
هامت بك العين ولم تتبع سواك هوى
من علم البين أن القلب يهواك
أليس خيال الشاعر في الشطر الثاني من هذا البيت يدلل على أن أعذب الشــعر أكذبه …… ترى من الذي علم البين ( الموت ) و أرشده أنني قد مت في هـواك و هل الموت يراقب هوى المحبين …… إنها خيالات كاذبة و لكنها مسـتطرفة عند بني الإنسان .
كما أننا لو قرأنا قول عمر بن أبي ربيعة :
ليت هنداً أنجزتنا ما تعد و شفت أنفسنا مما تجد
و اسـتبدت مرة واحدة إنما العجز من لا يستبد
كلما قلت متى ميعادنا ضحكت هند وقالت بعد غد
أليس الوعد في هذه الأبيات وعداً كاذبا و لكنه وعد عذب و ما أجمل الشعر الذي يعتمد على المبالغات غير الممجوجة و في تقديرنا أن الشعر إذا خلا من المبالغات افتقر إلى الخيال و إذا افتقر إلى الخيال ضعفت القوى الشاعرية لدى صاحبه
. …………….
الشاعر الناقد حسين هنداوي