قد يجد البعض كلامي هذا غريبًا، بل ومثيرًا للدهشة، خاصة عندما يصدر من شخص قضى عمره في تعلم وتعليم اللغة الإنجليزية. لكن هذا هو ما توصلت إليه بعد سنوات طويلة من الجهد. لقد بدأت رحلتي مع اللغة الإنجليزية منذ عام 1976، عندما كنت طفلاً صغيرًا أتعلم الحروف الأولى من الأبجدية، أحاول تمييز أصواتها الساكنة والمتحركة، وأتعلم كيف أرتب الكلمات وأكوّن الجمل. مضيت بعدها في رحلة طويلة من التعلم، حتى تفوقت في نطق الكلمات كما ينطقها أهلها الأصليون، بل وأحيانًا أفضل منهم. كان الأمر يتطلب التنقل بين مهارات الاستماع، والتحدث، والقراءة، والكتابة، وتطلب الأمر جهدًا مضنيًا لفهم قواعد اللغة وإتقان تفاصيلها الدقيقة.
ورغم كل هذا الجهد، أجد نفسي اليوم متسائلًا: هل كان كل ذلك يستحق العناء؟ هل كانت اللغة الإنجليزية، التي استنزفت منا ساعات طويلة وجهودًا كبيرة، تستحق كل هذا الجهد؟ للأسف، النتيجة لم تكن كما توقعت. كل تلك الأموال التي أنفقت على تعليم الإنجليزية، وكل ذلك الجهد العقلي والبدني، لم يؤتِ الثمار المرجوة. ما زال الكثير منا عاجزًا عن استخدام اللغة الإنجليزية بكفاءة في حياته العملية، وما زالت الحواجز الثقافية واللغوية قائمة، بل ربما أصبحت أكثر وضوحًا.
في المقابل، نجد تجربة أخرى تستحق التأمل. الصينيون، على سبيل المثال، بدأوا بتعليم أبنائهم اللغة الإنجليزية عندما احتاجوا إلى نقل المعارف والعلوم الغربية، واتبعت مدارسهم في تعليم اللغة طريقة “الترجمة النحوية”. وهي طريقة تعتمد على ترجمة الجمل من اللغة الأم إلى اللغة المستهدفة، ثم العكس، بهدف تمكين الطلاب من قراءة المقالات والكتب العلمية والأدب الأجنبي بلغته الأصلية. هذه الطريقة ركزت على القراءة والكتابة وفهم القواعد، لكنها أهملت مهارات الاستماع والتحدث. وهذا النهج كان واضحًا في أن تعلم اللغة كان وسيلة لتحقيق غاية معينة، وليس غاية في حد ذاته.
هذا يدفعني إلى طرح تساؤل مهم: لماذا نصرّ على تعليم اللغة الإنجليزية لكل أفراد المجتمع في كل مراحله الدراسية، بدءًا من الابتدائية وصولًا إلى الثانوية؟ هل نحن بحاجة فعلية لتعميم تعلمها؟ أم يجب أن يكون تعليم اللغة مقتصرًا على من يحتاجها في مراحل متقدمة، كما يحدث في الدراسات الجامعية أو العليا؟
لقد عايشت تجارب عديدة لليبيين قدموا إلى بريطانيا لدراسة الماجستير والدكتوراه، وكانوا حديثي العهد باللغة الإنجليزية، بالكاد يعرفون بعض الكلمات البسيطة. لكنهم، بفضل احتياجهم الحقيقي للغة، تمكنوا من إتقانها بسرعة. فالاحتياج هو العامل الأساسي الذي يحفز على التعلم، وليس مجرد تدريس اللغة كنوع من الرفاهية في جميع المراحل الدراسية.
ومن هنا أستشهد بما ورد في السيرة النبوية الشريفة، حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم السريانية والعبرانية حتى يستطيع أن يكتب إلى اليهود ويترجم رسائلهم. وفي روايات أخرى، ذُكر أنه تعلم الفارسية، والرومية، والحبشية، والقبطية، وفقًا لاحتياجات المجتمع في ذلك الوقت. هذا يدل على أن تعلم اللغات ينبغي أن يكون استجابة لحاجة فعلية، وليس فرضًا عامًا على كل أفراد المجتمع.
إن المشكلة الحقيقية تكمن في أننا بذلنا جهدًا هائلًا في تعلم لغة لم تكن قادرة على تلبية احتياجاتنا اليومية أو المهنية بالشكل الذي كنا نطمح إليه. لقد أُهدرت موارد كبيرة على تعليم اللغة الإنجليزية، دون أن تحقق الفائدة العملية المرجوة. وكأننا كنا نطارد سرابًا.
في النهاية، يجب أن نعيد التفكير في كيفية تعليم اللغات الأجنبية في مجتمعاتنا. يجب أن يكون التعليم مبنيًا على الاحتياج الفعلي، وليس مجرد اتباع نماذج تعليمية غربية دون دراسة كافية لمدى ملاءمتها لواقعنا. علينا أن نركز على تعليم مهارات أخرى أكثر أهمية وارتباطًا بحياتنا العملية والعلمية، وأن نترك تعلم اللغات لمن يحتاج إليها في مراحله التعليمية المتقدمة.
د.عبد المنصف المنصوري