على تلة واحدة وقفنا معاً، ننظر صامتين الى غروب شمس يافا، هو يهودي في السبعين، وأنا فلسطيني في الخمسين. تركت طلابي يلهون قرب الموج، وترك هو عائلته تأكل قرب البحر. قال لي وهو يبتسم: جئت هنا آكل وجبتي الروحية، لابد للغروب حتى تشرق داخلي لوحات الله، ثم أدار وجهه ناحية الشمس، وهي تهوي بطيئة وراء الأفق. أفكّر أنا في مصطفى الدباغ، وهو يرمي أمامي، الآن، مضطراً (تحت ضغط ركاب القارب الخائفين، وقبطانه المتوتر) قرى ومدناً فلسطينية كاملة في البحر، تخفيفاً لحمل قارب.
جئت أراقب مصطفى، وهو يكاد يموت غيظاً، أمام بلاده الورقية، وهي تهوي في البحر، قلت لليهودي السبعيني. من هو مصطفى؟ سألني ولم أجبه، فقد انشغلت بصراخ الركاب، وهم يشدون حقيبة بلادنا فلسطين من يد مصطفى الذي كان يشدها نحوه، هو الآخر، ثم صوته، وهو يتوسل للقبطان: أرجوك هذا جهد ليال طويلة، كيف أرمي بلادي في البحر، وكان القبطان يضحك متوتراً: أنت مجنون، فقد ذهبت كل البلاد، الهدف الآن أن لا نذهب معها، ألا تريد أن تصل إلى الأمان؟
يظنني اليهودي، الآن، مجنوناً. أتخيله يقول في سره: من هو هذا مصطفى الذي يراقبه هذا الفلسطيني المخبول، أنا لا أرى أمامي أحداً. كان الجو يزداد قتامة، أسمع صوت إطلاق نار، تعقبه صرخات نساء، لا أعرف المصدر، أرى قوارب عديدة تظهر تحت الشمس، فيها عشرات المهجرين الفلسطينيين، نساء أطفال شيوخ، شباب، أرتبك، أتوتر، يحمّر وجهي. يخاف اليهودي مني، يبتعد قليلاً عني، وهو يظنني بالتأكيد مريضاً: هل أنت بخير؟ اليهودي يسألني، ثم يواصل حديثه، وهو يكاد يطير تأثراً بسحر المشهد:
انظرْ، أيها الفلسطيني، كم هو يبعث على الحزن الباني هذا الغروب، حدّقْ في تلك الحمرة المتوهجة في طرف الشمس، ذلك هو حزننا الذي يقوّينا، حزن الإنسان الذي هو مفطور على الانكسار، هذه القابلية تعطي حياته معنى أوسع، وأعمق.
يواصل المهجرون الفلسطينيون هروبهم أمامي، تحت شمس غروب يافا، أشعر بالألم والخجل، لأني لا أستطيع مساعدتهم، أستطيع، الآن، رؤية مصطفى، وهو يبكي في طرف القارب، انظر يا حايم، القوارب تزداد والبحر هائج، أليس من واجبنا الهبوط إلى الشاطئ، ومحاولة مساعدتهم، إنهم بشر، أليس كذلك؟
عن أي رصاص وهيجان بحر وقوارب تتحدث؟ واضح أن الحكمة التي تقول: كن جميلاً ترى الوجود جميلاً تنطبق عليك الآن. أنا على يقين أنك مريض، اذهب إلى الطبيب، وعالج روحك. ثم عد وشاركني وجبتي.
أعجز عن إقناع حايم بما أشاهد، وهو تماماً يعجز عن إقناعي بجمال ما يرى، يبدو أن هناك فجوة عميقة بيننا في طبيعة حدقتينا.
أنظر إلى ظلال السمك، وهي تكتسي بالحمرة المنتشرة من حمرة الشمس. يا الله، آه لو كنت شاعراً، أو فيلسوفاً، لكتبت الآن قصيدة، أو لكتبت كتاباً كاملاً من الحكم. يقول حايم، وهو يتمايل طرباً، بينما أغصّ أنا بمشاهد الموت، والدمار، والنار.
تحضر عائلة حايم: أبي أبي، لماذا لم تنادِ علينا، تريد حرماننا من هكذا سحر؟ تقول له الابنة الجميلة، وتواصل: يا له من منظر خاطف للمشاعر، سأكتب الآن قصيدة عن الألوان الخفيفة والحلوة والهادئة التي في الشمس.
وأسمع صوت طالب من طلابي وقد وصل للتو صاعداً التلة: أما أنا، يا أستاذي، فسأكتب عن جحيم ألوان الألم التي اكتوت بها قلوب الذي رحلوا عن بيوتهم وأراضيهم. يبتسم حايم لابنته، وأبتسم أنا لطالبي الحبيب، ويواصل كل منا مراقبة ما يشاهده، تظل الحدقتان مختلفتين ومتنافرتين. أهبط التلة مع طلابي، مسرعين في محاولة لإنقاذ طفل فلسطيني، وقع من قارب فاض بالركاب من الأطفال والنساء، بينما يظل حايم وعائلته فوق التلة، يراقبون بهدوء وشعرية عالية ومتعة غروب شمس يافا.
الكاتب زياد خداش