يمثل الوجود الفرنسي في القارة الأفريقية فصلاً مظلماً في تاريخها كما في اذهان سكانها، حتى راح الكثير من المفكرين على تحميله اوزار وأد الحركة الفكرية الأفريقية التي انتشرت قبل قدوم الفرنسيين وكانت تحمل معها الكثير من الآمال للشعوب الأفريقية كونها قد نسجت نواة هياكل سياسية تتماشى مع تطلعات الشعوب الأفريقية وتمثل خطوة متقدمة نحو تحقيق سيادة افريقية واستقرار سياسي مستدام.
كل شيء تبخر مع قدوم المستعمر الفرنسي الذي سارع لكبح جماح هذه الحركات ووأدها ليوطد أعمدة بقاءه جاثماً على صدور الافريقيين لعقود، وليستبدلها بهياكل استعمارية تضمن استدامة مصالحه الاقتصادية، السياسية والتوسعية. بعد توطيد الوجود الفرنسي بدأت رحلة نهب موارد القارة على كافة الأصعدة فلسوء حظ الأفريقيين امتلكت افريقيا كل محفزات الاستعمار فكانت ولاتزال متخمة بالموارد الطبيعية والمعادن النفيسة، كما أنها كانت خزانا بشريا لطالما أَمَدَ فرنسا بالمقاتلين والعمالة الرخيصة التي اتخمت اقتصاد فرنسا وأبقت بطون الأفارقة خاوية واستنزفتهم بكليبتوقراطية غير مسبوقة.
لم يكن لكل هذا أن يستمر لو لم تقم فرنسا بطمس الهوية الأفريقية وغزو عقول الأفريقيين ثقافيا من خلال التسويق لنفسها على أنها حكومة تنويرية تحمل أنموذج ثقافي ناجح تود أن تعيد تكراره في أفريقيا لتُخَلََصَها من الجهل والانغلاق. فأعتمدت فرنسا اللغة الفرنسية كلغة رسمية في كل مستعمرات افريقية وانشئت أنظمة دراسية تحكمت من خلالها بتوجُه الأجيال القادمة، لتُنسيهم ثقافة اجدادهم من جهة وتسلخهم عن هويتهم من جهة أخرى وليكونوا نواة مرحلة جديدة مستقبلًا.
استمر هذا لحين بِدأ الحركات التحررية في القارة حيث انتشرت حُمى الاستقلال في الكثير من الدول الأفريقية وبدأت فرنسا ترى أن سياساتها لم تعد صالحة لهذه الفترة وعليها تغييرها اذا كانت تود استمرار تدفق موارد أفريقيا الى فرنسا واستمرار استغلالها ولكن بطريقة أخرى تتناسب مع الواقع الجديد التي فرضته حُمى الاستقلال.
رأى الرئيس الفرنسي شارل ديغول أن بإمكانه استمرار إحكام السيطرة على الدول الأفريقية حتى وإن اعطى الافريقيين ما يطالبون به وهو الاستقلال ولكن بالطريقة التي يريدها ديغول وليس الافريقيين. تخلت فرنسا عن فكرة وجودها المباشر في افريقيا الذي كان باهض التكلفة وسيكلفها الكثير من الخسائر في كل صدام مع الشعوب المحلية فراحت تدعم فكرة القبول بمرحلة انتقالية تشرف عليها فرنسا وتتضمن صياغة دستور وحكومة ديمقراطية قبل خروجها من هذه البلدان، كون فرنسا تملك زمام الأمور وتساهم في صياغة الدستور راعت ضمان مصالحها في هذه الدول وقدوم حكومة وظيفية تعمل على رعاية مصالح فرنسا وبقاء نفوذها. استغلت فرنسا رغبة الأفريقيين الجامحة للاستقلال واستمالتها لجيل مثقف كامل من خلال تعلمه في فرنسا، فسعت لقدوم حكومة تُدين بالولاء لها من جهة وتتمتع بالقليل من القبول في الأوساط الأفريقية مع تلميع صورتها وتصدير رواية الاستقلال الكامل.
وقعت هذه الحكومات اتفاقيات اقتصادية وعسكرية غير متكافئة و طويلة الأمد مع فرنسا ضمنت تحكم فرنسا بإقتصادها وتوجهها السياسي لعقود، هيمنت الشركات الفرنسية على كافة القطاعات الحيوية في افريقيا حيث هنالك ما يقارب 4000 شركة تغزو قطاعات الدول الأفريقية الحيوية بحجة المساهمة في تطوير البنى التحتية والتنمية الأفريقية. كما كانت أفريقيا لعقود سوقا تجاريا لبضائع الفرنسيين واحد اكبر المستوردين للمنتجات الفرنسية وأبرمت هذه الحكومات كثيرا من صفقات الأسلحة مع فرنسا مما عاد بالمليارات على فرنسا واستمر واقع أفريقيا المرير بل ازداد سوءً في ظل الفقر والبطالة وشبح الجوع الذي فتك بالعديد من دولها بينما ينعم الفرنسيين بخيرات افريقيا المنهوبة ويبقى ابناءها في نفق مظلم.
ليس هذا فحسب فهيمنت فرنسا على احتياطات أفريقيا النقدية من خلال طباعتها للعملة التي استعُملت على نطاق واسع وهي الفرنك الأفريقي، مما مكن البنك المركزي الفرنسي من الاستحواذ على 70 بالمئة من احتياطات هذه الدول والانتفاع منها. استمرت فرنسا على هذا النهج وتمددت اكثر من خلال قواعدها العسكرية المتشعبة في أفريقيا وراحت تتدخل عسكريا عندما يطرأ تغيير ما على الواقع السياسي الافريقي التي نسجته.
فدارت أصابع الاتهام كثيرا حول فرنسا بتهمة تزوير الانتخابات أو دعم الانقلابات العسكرية مادامت الفئة السياسية الجديدة ستضمن مصالح فرنسا وتتبعها اتباعا اعمى. عَمَرت كثير من الديكتاتوريات في افريقيا بفضل الدعم الفرنسي بسياسة عرفت بالسلطة مقابل التبعية فعمد رؤساء هذه الدول بإغراقها بالديون والاتفاقيات المجحفة لإرضاء فرنسا وضمان استمرار حكمهم
أما اليوم فبدأ دور فرنسا ينحسر شيء فشيء بالقارة السمراء بعد تحولات سياسية ضخمة في أفريقيا وسخط شعبي كبير من التواجد الفرنسي في أفريقيا وتنامي نفوذ قوى عظمة اخرى في أفريقيا مثل الصين وروسيا، واليوم تتجرع فرنسا من نفس الكأس الذي اذاقته عقودا للأفريقيين فها هو شبح الانقلابات العسكرية الذي دعمته مرارا يطردها من كثيرا من دول أفريقيا ويطلب ود غيرها.
فهل سينجح الانقلابين بصناعة المجد الأفريقي المنشود أم أنهم سيستبدلوا مستعمر بأخر؟
ورشة الفضاء الحر