في سجن صيدنايا الرَّهيب المحكم الإغلاق كلُّ أساليب التَّعذيب الجهنَّمِيَّة المبتكرةِ تطالعنا الفضائيَّات بصورٍ في غايةِ البشاعة لدمًى آدميَّةٍ ممزقةِ الأجساد مقطَّعةِ الأطراف مثملةِ العينين غاب عنها ضمير العالم، وغفا عنها ضمير الإنسانيّة، ومات فلقد صلب الشَّبِّيحةُ المسيحَ ألفَ مرَّةٍ، ومرَّةٍ هناكَ، وتنادوا: أنْ لا إله إلَّا البعث، وأنْ لا رسولَ إلَّا الأسد لنصفِ قرنٍ، ونيفٍ من الزَّمانِ، فما كان حافظهم حافطًا، وماكان بشَّارُهم بشارًا؛ فكأنَّ الحراس قد ذهبوا في رحلةٍ لسقرَ، وعادوا؛ ليطبِّقوا ما شاهدوه،وينفِّذوا الأجندة بحذافيرها على السُّجناء العزَّل بطريقة ممنهجةٍ، بلا جُرمٍ فعلوه، ولا جناية ارتكبوها وما كانت لهم من تهمةٍ- فقط- كانت التُّهمة الوحيدة المنسوبة لهم جميعًا أنَّهم أحبُّوا الوطن أكثر من حبِّهم للأسد؛ ففتك بهم، ونكَّل بأسرهم واغتال أقاربهم وما بين عشيةً وضحاها صارت دروبهم صامتةً، وتاهت بهم الطرقات أصبحوا جميعًا يبحثون عن مخرج في زوايا لا تنبض بالحياة… امتصَّ المارق دمائهم بآلاتِ نفخٍ وكبسٍ يُدْخِلُونَ السَّجين بها فيخرج كورقة البفرة الفارغةأو كنسيجٍ متهالكٍ يلقون ببقاياه في مزابل القمامة مع روث الحيوانات،وتتناثر دماؤهم مختلطةً بمياه الصَّرف الصِّحيِّ في خضوعٍ وذلٍٍّ، وإذعانٍ تشكو إلى بارئها قسوةَ جلَّاديها الَّذين سفكوها بغير جريرةٍ، وأزهقوها بلاذنبٍ، وتلعن موت الحياة في العالم خلف أبواب السِّجن الَّتي لا تفتح إلَّا بشفراتٍ خاصَّةٍ،وأكوادٍ سريَّة لا يعرفها إلَّا السَّجان الَّذي هرب مذعورًا حين علم أنَّ مآلات الأمور أصبحت وشيكةً، وأنّه سيقع في قبضة من لا يرحمه كما لم يرحم هو صرخاتِ الأبرياء، وتستهين به كما استهان هو بعَبْرَاتِ، ودموع الأتقياء؛ فلعلَّها دعوةُ مظلومٍ سرتْ بليلٍ غفلوا عنها لكنَّ الله لم يغفل… نعم الله الأمد وبلغت الرُّوح الحلقوم،وبلغت القلوب الحناجر واستيأسَ القوم،وظنُّوا أنَّهم قد كُذِبُوا ، لكنَّها دائرةٌ تدور حينها تيقَّن السَّجانُ الهارب الخائف من سجينه أنَّ الدُّنيا قد ولَّتّ، وأنَّ النِّعمةَ قد زالت من يد متسلطٍ بائسٍ، وأنَّ العهد الآتي سيبدِّل أحوال التَّرف بمخالب جوعٍ قاتلٍ، وأنٌّ الأسد ماعاد يزأر بل ركب ناقته، وشرد بعيدًا… صار الطالبُ مطلوباً… أتاه الطوفان فوضع دمشق تحت قدميه وطارَ كعصفورٍ مبتلٍّ مكسورِ الجناحين أو كصقرٍ مجنحٍ شاخت عضلاته، وخارت قواه … كم من الوقت انقضى؟! وكم من الدَّعوات خرجت من الأفواه وعانقت أبوابَ السَّماء طيلة أعوامٍ عديدةٍ؟! مات الكثيرون من أبطال الرِّواية من الأحرار الَّذين كانوا في أمسِّ الحاجة للشُّعور بوهج الشَّمس الجديدة؟! حتَّى من أتيحت لهم الفرصة، وبقوا على قيد الحياة والأمل ماتوا لحظة المغادرة؛ فقد كان حلمهم الوحيد رؤية شمس دمشق الَّتي لن تغيب، وأن يشمُّوا ما تبقى من عطر البنفسج والياسمين وعبقه في جوها، ويلمسوا الثَّرى الرَّطيب بأكفِّهم العارية، ويعانقوا المدى المشرئب في فلسطين والنَّاصرة وغزة المحاصرة حتَّى الإذاعات المحليَّة لم تهتدِ بعدُ لأسماء هؤلاء الموتى تنشر صورهم – فقط – ربَّما كان هناك من تبقى من ذويهم… يأتون لاستلام جثثهم، ويقيمون سرادقات العزاء لهم في العراء الممتدِّ بطول ريف الشام،والمدن السُّورية الخاوية على عروشها….
كم ظلَّ هؤلاء يحملون تيجانًا من أحلامٍ يتوقون ليومٍ تكلِّل الحريَّة فيه مفرق الوطن المهدور كرامته وكرامتهم … أطفالٌ في عمر الزُّهور قضوا نَحْبَهم من أمثال :حمزة الخطيب … شبابٌ ويافعون دفعوا ثمن الحريَّة لوطنهم المفدَّى – غاليًا – لم يُكْتبْ لهم أنْ يشمُّوا رائحةَ الياسمين يومًا ، وكم من نِسوةٍ، وعذارى أُغْتُصِبْنَ وأَنْجَبْنَ أطفالًا لا يعرفون آباءهم، ولا يعرفونهم؟!
فيا لضميرٍ العالم..!!
هؤلاء الموتى الآن انبثقوا كمناراتٍ للعدل في أرضٍ أضناها الظلم فتدلت أعناقهم غير آبهةٍ بالسُّقوطٍ…
عندما كسروا أبواب الطَّابق الأوَّل وجدوا الزَّنازين مجهَّزةً؛ فقد وفَّروا لهم وسائل الرَّاحة الأبديَّة، ومصادر إعاشةٍ تنزعُ عنهم الغلال، والأصفاد ، وكلاليب وخطاطيف تخلع الحناجر قبل الأظافر والأنياب والأضراس قبل الأسنان كانت تلك أفاعيلُ شيطانِ الشَّام، ومجرمها أمَّا من عاشوا؛ فقد فازوا إذ خرجوا من العتمة بجسدٍ منهكٍ بعد أن أخمدوا جَذْوةَ النَّار في أرواحهم، وفرَّ القاتلُ كالجِرْذِ المذعور؛ فقد كان الثَّابت صار المتحوِّل يزعمون أنَّه لم ينحنِ للرِّيح يومًا لكنَّه انكسر فجأةً… غادر على وجه السُّرعة بلا عودةٍ، وها أنا الآن أسمع صوتَ سجينٍ يرتجف لكن لا يخفتْ، ويوصي أصحابه بالصَّبر حتَّى النَّصر والظَّفر: (لا تَهِنُوا؛ فالعمر كما الرِّيح يمرُّ).
وبيده غصنٍ من نعناعٍ لم يذبل بعد لقد نفد الياسمين من دمشقَ ، ولا ندري أنبكي من رحلوا أم نبكي من ظلُّوا على قيد الحياة لكنَّهم أصبحوا كهشيم المحتظر؟!
، ويضيف الآخر : أنا في مهبِّ الذِّكريات تحاصرني الدُّروب، وهي تتنهَّد متعبةً في ريف الشَّام، وفي حمص وحلب، َوحماة، ويزيد الثَّالث :كنَّا نرسم للأحلام طريقًا بين الحارات،ونملؤه بضحكاتٍ وورودٍ كنَّا نعشق كلَّ ركنٍ في بلاد الشّام،ونهوى كلَّ ذرَّةٍ من ترابها؛ ونعيد النَّبضَ لقلبها الميِّت؛ فكلُّ حجرٍ كان صديقًا لنا ، وكلُّ زاويةٍ كانت تعرفنا.. ويقولُ الرَّابع :كانت خُطُواتنا شِعْرًا نتغنَّي به حبًّا لأرضنا وفداءً لها حتَّى تتوهجَ بالحنين،، ونتوهج نحن بدفئها.
ويضيف الخامس : تعبنا من الجري ، وضاق بنا الأفق كنَّا نركض خلف خيالاتٍ للحريَّة المنشودةِ تتبدَّد جميعها قبل اقترابها،وينتهي حلمنا بكابوسٍ تضجُّ منه مصاجعنا حينما اقتادونا لسجن صيدنايا ؛فلم نجد إلا السَّراب متكئًا لنا فيه، والوهم أنيسًا، والخوف جليسًا
والسَّحق والسَّحل والقذف والرَّجم أقاموا علينا جميع الحدود دُفْعَةً واحدة؛ صنعوا لنا محاكم تفتيشٍ جديدةٍ ذاتِ التَّعذيب الرّهيب، والقتل الشَّديد حيث لا يوجد أبرياء؛ فالجميع مذنبون ومدانون من يغلق نافذة داره مذنبٌ، ومن يقفل عليه بابه مذنبٌ،ومن يتركه مواربًا مذنبٌ… ثمَّةَ ممارساتٍ وحشيَّةٍ لا ندري من أين جاءوا بها؟! ولا كيف صنعوها؟! رحًى تدور وتروسٌ وعجلاتٌ تمزقُ و تهرسُ وتعجنُ وتطحنُ وتحطِّم، وتمحو وتهري، وتفري
نتساءل أين تربى هؤلاء الخونة؟! ولصالح مَنْ زبانية جهنمَ يعملون ؟!
هل هم بشرٌ مثلنا يحسِّون،ويشعرون، ويفرحون، وبحزنون، ويألمون كما نتألم ؟!
كيف يضاجع هؤلاء نساءهم، ويتنعمون بالنِّعم بعد كلِّ ما يحيق بنا على أيديهم؟!
كيف يمشون في شوارع دمشق مرفوعي الرأس موفوري الكرامة وهم يكبِّلون الوطن،و يقتلون بدمٍ باردٍ خيرة أبنائه؟!
يا الله يا لها من حياةٍ تعيسةٍ… لم نكن على يقينٍ أنَّ أرض المحشر ستكون بالشَّام حتَّى رأينا براميل المتفجِّرات، والقنابل العنقوديَّة المحرَّمة والمُجَرَّمَة دَوْليًّا تُلْقى على رؤوس سكان القرى، والمدن المنكوبة؛ فتحيلها رمادًا وركامًا وتفتِّت الأكباد وتمزق الأجساد، فكأنَّ قيامتهم بالفعل قد قامتْ في أرض المحشر والمنشر … لم نستفق إلَّا حينما أباح الخونة للدُّبِّ الرُّوسي حمص، وأقاموا لسفنه المؤانئ ، وجهزوا لعساكره الخمور والسِّلاح وكؤوس الرَّاح،وأقاموا المواخير، وأحضروا له الحسناوات من الرَّاقصات والمغنيَّاتِ والجواري والمحظيَّاتِ؛ فأصبحتْ حمص أبي عبيدة، وصلاح الدِّين مدينةً للحبِّ والبغاء والمجون ، ومحورًا للممانعة لكن لا ندري لمَنْ؟!
في اللَّيل أقاموا حفلتهم، وعلى أنغام موسيقى الرّاب،وعزف القيان قتلوا، ودمَّروا، وأبادوا، واستباحوا الحرمات … كنَّا نستنكر ما فعله الأمريكان في أبو غريب بالعراق لكنَّ الأمر في سوريا كان أفظع وأبشع وبأيدي مَنْ؟! بأيدي بنيه… أربعة عشر عامًا من القتل والسَّبي البابليِّ لمئات الآلاف،وما كلَّت أيديهم… أزهقوا الأرواح، وأهرقوا الدماء ،وما استفاقت ضمائرهم… !!
أسلموا جميع الحصون للتُّرك وللفرس وللرُّوس ولليهود…. كنَّا يا ولدي نتوه في عتمة اللِّيل، ونردِّد
دومًا متى سيطلع الفجر؟!
متى سنشمُّ نسيم الصَّباح؟!
ننتظر من سيجيء، ويفتح عين اللَّيل بابتسامة النَّهار، ورغم الصَّمت والقهر، والحصار كنَّا نحيا على أملِ أن تولد الشَّمس ،ونقول: رغم ما يحدث معنا، و ما نمرُّ به، وما يقع علينا في جوقةٍ جماعيَّة نختم بها فصول المسرحيَّة :غدًا ستشرق الشَّمس؛ سينبلج فجرنا العالي؛ فقد ضاقت بنا الحيل ، وأمست الغربان تُهاجم سِرب أحلامنا ،وحاصرت أسراب البوم سرب الحمام؛ فما أبقتْ لنا من الأمنيات أمنيةً ،
ضاعت ملامحُ الطَّريق، وسقطتْ توقعاتنا مرَّاتٍ ومرَّاتٍ ،وبِتنا نسأل المارِّين عن دربٍ يأوينا، وعن صبحٍ ينير عتمة أيَّامنا
لم نكن ندري أقريبٌ هو أم بعيدٍ؟!
ثار الزمانُ على الغاصبين ، وأرسل جيل الغاضبين؛ ليأخذوا لنا بالثأر ، لقد عصفت بنا جميعًا رياح الغدر، واقتلعت جذور الياسمين من دمشق، ولم يسلم منها أحدٌ؛ لكنَّها في المرَّة الأخيرة جلبت في أعقابها للطغمة الفاسدة هزائمَ عديدةً لا هزيمةٍ واحدةٍ نفتهم الطائرات إلى بلدان شتَّى، وزُلْزِلت الأرض من تحت أقدامهم لم يحسبوا يومًا حسابًا ليوم ترد فيه المظالم كانوا مخدوعين بسلطةٍ زائفةٍ وشجاعة وجرأةٍ لا نهائية على الضُّعفاء المأسورين بالجوع والعطش؛ فشربوا من نفس الكأس الذي أذاقوا الجميع ويلاته الخوف والعجز والقهر واللُّجوء لديارٍ ليست لهم، ولأماكن لا تعرفها قلوبهم، ولأرض لا تعشقها أرواحهم أضحوا غرباء حتى عن أنفسهم يرعون الخنازير في قصور بوتين
فقدوا بوصلة وطن الياسمين بعدما أحرقوه، وأضاعوه وحوَّلوه لمدنٍ تسكنها الأشباحُ ، خسروا معركتهم الأخيرة واصبح همهم الوحيد البحث عن ممرٍّ آمنٍ أخير ، فياتري بماذا حدثتهم أنفسهم؟! وكيف يطيقون وداعًا لهريرة مع ارتحال ركبهم لا ركبها؟! وكيف يختبئون، ويخبئون خدوش قلوبهم، وهم يغادرون القصور الخالية، ويتركون العروش الخاوية ،
هل حقًّا سيجدون المحطَّاتِ الأخيرةِ و الدُّروب الصائِبة،وأيُّ حسرةٍ على من أضاعوا أوطانهم وباعوا في سوق النِّخاسة بلدانهم وعروشهم ولسوف يسألون عمَّا اقترفته أيديهم من آثامٍ وعمَّا جنته قلوبهم من ضلالات وبهتانٍ وكذلك سوَّلت لهم أنفسهم وكذلك يفعلون…
وغدًا ستشرق شمس دمشق من جديدٍ ويزهر الياسمين في البساتين.
القاص عبد الصمد الشويخي