قراءتي لنص “الأعماق المضيئة”
للأديب: محمود روبي
النص:
الأعماق المضيئة
حين تسير مطمئنًا خلف أعمى؛ أنت لست بأحسن منه حالاً، بل يزداد حالك سوءًا عندما تُسلِّم بأن هذا الشريك الأعمى يرى ما لا تستطيع أن تراه، ويعرف ما لا يمكنك أن تعرفه.. فيصير الوضع خطرًا داهمًا.. كارثة توشك أن تحل بك لا محالة..
فما أرى الجسد إلا أرضًا قاحلة مظلمة، بل خطرة على الدوام.. محشوة هي بالفراغ حين تتظاهر بالامتلاء بينما تومض رغباتها الجائعة قلقًا يشوبه الرهبة والجزع..
تخشى النور الكاشف للطريق، الدال على الوجهة، القاطع للظُّلمة، المبصر للعميان.. تجزع حين تنهزم سريعًا دون قتال أمام غضبة الأمعاء وفوران الرغبة..
غادر الأرض المضطربة المهتزة بلا تردد أو تباطؤ.. غادر الآن قبل أن تبتلعك شقوقها المتربصة تحت أقدامك المرتعشة.. فإن شئت استجمع قواكَ وتسلَّق أعلى القمم أو اقفز بعيدًا صوب أعماقك الفسيحة الرائقة.. هناك حيث شموس المعرفة وضياء الحقيقة، تلك التي تنتظر قدومك في كل حين.
لا ترجع قبل أن تلتحم الشقوق الغائرة وتهدأ غضبة الأمعاء.. لا ترجع قبل أن تُخمد ثورة الرغبة وتنحسر الظُلمة.. حينئذٍ يُصبح الجسد فرَسًا وتعود أنت فارِسًا.
القراءة:
يقول الله تعالى: ” فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور” الحج آية 46
بعض الدروب قد تحاج فيها لعصا الأعمى، فهي تعرف كيف تستدل، لأنها تبصر بقلب صاحبها و بصيرته.. و هنا عليك فعلًا أن تقلق، إن لم تملك ذاك النور الذي ينبع من داخلك، قلبك و عقلك معًا يشحذان طاقته.. و المطبات كثيرة، و بعض الجروف سقطاتها مميتة..
إن الإنسان العادي ، أيها الباحث عن المعرفة، يرى العالم بحواسه، وهي محدودة. فهي وجدت ليس من أجل اكتشاف الحقيقة، بل من أجل الحفاظ على البقاء،
استفت قلبك حين يعزّ عليك الاختيار، هديّ القلب يعينك إن أخلصت النوايا و الرغبات..
رؤياك أيها المحقّق في تفاصيل التكوين، تستفزّ المبحر في فلسفتك.. تنتقل من صفحة إلى أخرى في تدوينتك، و تأخذنا في دوامة التفكير..
تحكي عن الجسد، و ما هو إلّا وعاء، لا يملك من أمره شيئًا.. عبدٌ لسيّد هو أنت بروحك و قلبك. فإما أن تجعل منه مطيّة تتعالى على صغائر الرغبات فلا تبقى إلا لسد الاحتياج، و إما أن تكرّس فيه تلك العبوديّة القميئة التي لا ترتفع عن مستوى الحيوان..هو فارغ و إن امتلأ، هو ضعيفٌ و إن تظاهر بالقوة .. فاحكم لجامك على شهواتك تسلم.
و كأني بك تقول “اعلم أن الحواس كلها ، التي يتفاخر بها جسدك، قاصرة..، إذا ما قورنت بما يطمح إليه العقل من المعرفة.. فدور الحواس الأساس، لا يتعلق بإعطائنا حقائق الأشياء، بل ضمان السير السليم والأمن في الحياة. وهذا ما تنبه له الفيلسوف جون لوك.
يقول جون لوك: «لو تغيرت حواسنا و أصبحت أكثر حدة مما هي عليه، لتغيرت مظاهر الأشياء عندنا، و لأصبحت غير متناسبة مع وجودنا»
فالجسد ليس غايتي و أنا المسافر في طريق المعرفة، لا فلات توقفني و لا وهاد.. إنه السعيّ إلى النور
“تخشى النور الكاشف للطريق” ؟ تساءلت لماذا؟ أتخشى أنه نفس النور الذي يهتدي به أصحاب الأبصار كما العميان.. لا فرق، أتريد أن تكون بطل الحكاية؟ أن يُحكى عنك في القص و الرواية.. أنت الفارس الفريد في الساح، تعرف كيف تجعل من صحارى الروح أقاح.. ،
لا يفتنك هذا النور، النور له الكشف، والبصيرة لها الحكم، والقلب له الإقبال والإدبار.
ها قد تغلّبت على كل العقبات بثبات صبر بعد أن وصلت إلى الحقيقة أيها الحكيم، و لك الحق أن ” تجزع حين تنهزم سريعًا دون قتال أمام غضبة الأمعاء و فوران الرغبة..” ليست من طبائع الفرسان ، و قد وصلت إلى الحكمة، و كأني بك تدلي بدلوك في محفل الرأي بعد طول عناء و تمحيص ، فتقول:
صحة النظر في الأمور، نجاة من الغرور، و العزم في الرأي، سلامة من التفريط و الندم، و الروية و الفكر يكشفان عن الحزم و الفطنة ومشاورة الحكماء، ثبات في النفس، و قوة في البصيرة، ففكر قبل أن تعزم، و تدبر قبل أن تهجم، و شاور قبل أن تتقدم.
تقولها بنصحٍ لا يخلو من سداد رأي، ” غادر الأرض المضطربة المهتزّة بلا ترددٍ أو تباطؤ.”
أجل .. غادر! ستبتلعك شقوقها ، التي إن رمزت لشيء فإنما ترمز لكل مفاتن الحياة و بهارجها الخادعة التي لا تودي إلّا إلى هلاكك. لا تكتفِ ، فالاكتفاء سقوط في هاوية الغرور، و لتكن أهدافك أسمى و أرقى، و امتشق عقلك و به حارب ، و اصنع من همتّك في البلوغ حبالًا بها ترتقي فالقمّة عالية، لكنها تستحق المخاطرة و المجازفة، و لا تنسَ أن تخلع في طريقك كل أرضيّ من الحواس ففيها مكمن الخبائث، لتتخفف، هناك ستكون أنت العقاب ، و السماء خالصة لك، و القمة عرشك، هناك ستدرك أنك حزت المعرفة، و من سعيك نلت مصابيح الحقيقة و بلغ النور مداه.. أنت منبعه..
و أن سعيّك لم يكن هباء.. ستعانق ذاك الباشق الذي في داخلك ، و الذي ما فتأ يغريك بسؤاله اللحوح أن ترتحل كل هذه المسافات ، مثقلًا بألف رغبة للوصول ، ها قد حملك على جناحيه، و وضعك على القمّة
” لا ترجع” ! .. لا ترجع، اشف غليل السؤال، و اجمع في كنانتك الحكمة، و كل أحجار المعرفة، و اصنع من شرارتها نارًا تطفئ العتمة، وتنير دهاليز الظلام.. هنا أنت الفارس العالم ، العارف.. أنت الذي روّضت هذا الفرس الشموص، فصارت طوعًا لك و صرت، فعلًا، سيّدها ..
نصٌ جميلٌ بفلسفةٍ خاصة، بتقسيمات أراد بها الكاتب أن يعطي بكلٍ منها موعظة، أو حكمًا على تجربة..
الكاتبة سمية الإسماعيل