لا ترحل! (لحظة صمت انهمرت فيها دموعها مدرارًا) أرجوك لا ترحل.
كانت تتوسل إليه بدموعها، وتلح عليه في إصرار أن يبقى معهم بينما هو منهمك في جمع أغراضه ودسها في حقائبه دون أن يعيرها أدنى اهتمام، كأنما صُمَّت أذناه، فلم يعد يسمع لنداءاتها المتكررة، أو كأنما قُدَّ قلبه من صخر، فلم يرق لدموعها الحارة وتوسلاتها الضارعة.
هزته بكلتا يديها – بالرغم من ضعفها – لعلها تُسقط عن كاهله تلك الإحن التي أنهكه ثقلها، لكنها كانت كمن ينطح صخرة صماء.
كان الوقت يمر كسلحفاة كسيحة، وكانت الهوة بينهما تتسع بخطوات سريعة، ولما بلغت مداها، ولاها ظهره، ومضى لا يلوي على شيء.
لا تدري هل أوصدت الباب خلفه، أم هو الذي أوصده، لكنها شعرت عندما غادر البيت، ببرودة شديدة تسري في أوصالها، تنبعث من أركان الشقة وجنباتها، وراحت تغزو أوصالها؛ تدثرت بأكثر من غطاء، لكنْ دون جدوى.
خانتها قدماها، فسقطت على الأرض في وهن شديد، تعلقت عيناها بنتيجة الحائط، برز التاريخ في سفور (الخامس عشر من ديسمبر).
- آه! (ندت عن صدرها المكلوم، تمزق نياط قلبها). يالتدابير القدر! اليوم الذي جمع بينهما، هو نفسه اليوم الذي افترقا فيه.
شدت عليها العطاء لإحكام؛ لتمنع تسرب الحرارة، وراحت تتذكر تلك الليلة الشتوية التي التقيا فيها لأول مرة، في حفل زفاف ابنة خالتها، وكان هو صديقًا لزوج ابنة خالتها. التقت عيناهما أكثر من مرة، وسرى بينهما ذلك الشعور المفعم بالإعجاب. لا تدري حتى اللحظة، أيهما كان صاحب المبادرة الأولى، كل ما تتذكره أنهما التقيا بعد تلك الليلة كثيرًا، وبعد ثلاثة أشهر، استقرت في بيته عروسًا، لتحمل في أحشائها ثمرة حبهما، والذي أطل على الدنيا بعد عام واحد من أول لقاء جمع بينهما في منتصف ديسمبر؛ ليملأ حياتهما دفئًا.
كانا يبدوان أمام الناس أنموذجًا للزواج الناجح، فهي (ست بيت) من الطراز الأول، وهو شخصية ناجحة ومشهورة؛ لكنَّ الواقع كان بخلاف ذلك. ثمة شقاق دَبَّ بينهما، بعد أن خمدت جذوة الحب، وخبا ذلك البريق الذي كانت يلمع في عينيه، وجعلها تنجذب إليه. وشيئًا فشيئًا تحطمت أحلامها على صخرة الواقع، لتذهب كل تلك الوعود التي منَّاها بها أدراج الرياح.
كان عمله يستغرق سحابة النهار، وكان يقضي شطر الليل في مكتبه بين أوراقه وكتبه.
- زوجة مثلك تتيه على صويحباتها بأن لها زوجًا مثلي.
كثيرًا ما يجابهها بتلك الكلمات، وكأنما يمنُّ عليها بما أوتي من مواهب، تلك التي حالت بينها وبين شعورها بأنوثتها، والتي كانت تندثر كل يوم تحت تلك الكومة المكدسة من الأوراق، والتي يسطرها بقلمه كل يوم، دون أن ينتبه لتلك المرأة التي تشاركه بيته، ولها مشاعر وأحاسيس كأي أنثى.
- ليته يطلق كتبه وأوراقه، ويتزوج بأخرى.
(همست بذلك بينها وبين نفسها)؛ فربما تتركه لها يومًا في الأسبوع؛ كي يروي جفاف أيامها وأنوثتها الذابلة.
كانت تشعر بالأقلام والأوراق عدوًا لدودًا ينازعها حقها فيه. إنه لم يهملها وحدها، وإنما أهمل ولده، لدرجة أن يمر يومان وثلاثة دون أن يراه أو يسأل عنه.
كان كلما ارتقى في سلم المجد، يزداد انشغالًا عن زوجه وولده الوحيد.
- ما لك وللزواج؟ أنت لست في حاجة إلى زوجة، أنت في حاجة إلى خادم. نعم، إنني أشعر أني خادمة ومربية لابنك وفقط.
- ……..
كان في كل حوار بينهما يلوذ بالصمت، مما يزيد من حنقها عليها. ثم يفزع إل مكتبه وكتبه، يوصد الباب خلفه، ولا تسمع إلا صرير الأقلام وخشخشة الورق، تاركًا زوجه وحدها تصطلي بنيران الغضب، دون أن يحاول ولو مرة أن يهدئ من ثورتها، أو يضمها إلى صدره حتى تستكين.
حتى جاء يوم، وبينما كانت تطهو الطعام، طرأت على ذهنها فكرة شيطانية، استولت عليها بطريقة جنونية، وراحت تناقش الفكرة بينها وبين نفسها:
- لو قمت بذلك سيتفرغ لي ولابننا.
- نعم، حينها لن يكون هناك شيء يشغله.
وأبرقت عيناها ببريق الانتصار، وراحت تسكب الكيروسين على أوراقه ومخطوطاته وكتبه، وفي ساعة واحدة، تحولت تلك الأكوام المكدسة من الكتب والأوراق على أرفف مكتبته، والتي ازدحمت بها شقتها وزاحمتها في زوجها، تحولت إلى رماد يملأ قبضة اليد، ومنحتها النيران حال اشتعالها بعض الدفء، والذي جعلها لا تبالي بصقيع ديسمبر، وسرت عبر النافذة المفتوحة رياح باردة، نثرت الرماد في أرجاء الغرفة؛ فتنسمتها، وهي تشعر بلذة الانتصار.
في ساعة متأخرة من الليل، عاد زوجها يحمل بعض الكتب الجديدة؛ ليضمها إلى مكتبته العامرة. فتح باب الشقة في هدوء، كان يخشى أن يوقظ زوجه، فتنتبه إلى الكتب التي ابتاعها، فتوبخه عليها كعادتها، قام بنزع حذائه، وسار على أطراف أصابعه، وهو يتلفت حوله، توجه إلى حجرة مكتبه؛ ليدس الكتب الجديدة بين أخواتها، ما إن دلف إلى الحجرة، حتى تطاير الرماد على وجهه. ألجمته المفاجأة، فعقلت لسانه، لم تمهله زوجه حتى يسأل، فوجئ بها تقف خلفه، وهي تطوقه بذراعيها، ثم قالت في دلال:
- لقد تخلصت من الكتب والأوراق التي أخذتك مني، الآن لديك الكثير من الوقت لتتفرع لزوجك المحبة ولابننا الوحيد.
فك نفسه من ذراعيها، ونظر إليه بغضب شديد، كاد أن يفتك بها، لكن خانته قواه؛ فسقط على الأرض، وتخضبت ثيابه بالرماد، أمسك بحفنة منه في قبضة يده، من أين له أن يعيد الرماد إلى أوراق مرة أخرى؟ لقد وضع فيها عصارة فكره وإبداع قلمه؟ إنها سنوات من القراءة والتأليف والمراجعة والتنقيح. هكذا في لحظة واحدة تصير هباءً منثورًا.
كادت نظراته لها أن تصرعها، فارتعدت فرائصها، وخشيت أن يفتك بها. الآن فقط أدركت فداحة ما اقترفته يداها.
مرت الأيام التالية في صمت زاد من شعورها بالبرودة والخوف. عبثًا حاولت أن تخرجه عن صمته، أن تجعله يتكلم، أن يصرخ، أن يثور. لقد هجر فراشها، وراح يرقد فوق رماد أوراقه وكتبه، وكأنه يغتسل بالرماد، كأنما يحاول استعادة ما التهمته النار مرة أخرى. ولكن دون جدوى.
كان يخالجها شعور خفي بأنه يدبر لأمر ما، لكنها عجزت عن التكهن به. هل سيهجرني وولده؟ هل سيطلقني؟ هل سيشرع في قتلي؟! لم تكن تدرك أن إبداعه يعادل عمره، وهي قد نسفت في لحظة جنونية عمره.
ظلت خلال الأيام التالية تخشى على نفسها من فتك زوجها بها، إنه لم يكن قاسيًا معها، مهما أخطأت، ولكن جريرتها تلك، لا يمكن أن يغفرها لها، كانت تظن أنها بفعلتها المشئومة تلك سيخلو قلبه لها وحدها، ولكته نأى عنها أكثر من ذي قبل، إن لم يكن قد لفظها من قلبه. لقد حال الرماد بينها وبينه، مقوضًا تلك العلاقة الواهية التي كانت تجمع بينهما.
كانت المطر يهطل بغزارة في ليلة باردة من ليالي ديسمبر، وكانت هي منكمشة في فراشها الوثير، وكان ابنها صاحب الأعوام الثلاثة، يقلب صفحات إحدى القصص المصورة، والتي اشتراها له والده قبل أشهر قليلة. أبرقت عيناها، ولوحت لصغيرها بيدها منذرة:
- ارمِ الكتاب، لا أريدك مثله، كفاني ما لقيته من والدك.
فلما أبى، انتزعت منه الكتاب كذئب انقض على فريسته، وراحت تمزقه في غير هوادة، غير مبالية ببكاء الصبي.
أشرقت شمس الخامس عشر من ديسمبر على استحياء، ما جعلها تتوارى خلف سحب قاتمة، ما لبثت أن هطلت بشدة، محدثة حال سقوطها سيمفونية تزيد من الشعور بالبرودة والخوف معًا، زاد منهما تلك الوحدة التي خلفها رحيل زوجها عن البيت، تاركًا إياها ووليدها بين جدران باردة وكئيبة.
راحت تتأمل السماء من خلال زجاج النافذة، كانت الغيوم تبعث في نفسها مزيدًا من الشعور بالكآبة والأسى. وراحت تقضم أصابعها ندمًا، وهي تسرح في ذكرياتها معه، فتَردد في خاطرها قوله لها:
- زوجة مثلك تتيه على صويحباتها بأن لها زوجًا مثلي.
ولكنه رحل، ولم يبق لها منه إلا بقية من ذكرى وبقية من ورماد.
د. سعيد محمد المنزلاوي