ومن جديد شرفتني الكاتبة الألقة عدلة شداد خشيبون باهدائي كتابها الجديد “همسات وتغاريد” خلال لقائنا في مدينة حيفا وفي منارتها الثقافية نادي حيفا الثقافي، حيث تولت إدارة حفل الإشهار لكتابي “أحلام فوق الغيم” الذي تضمن مقالي النقدي عن كتابها الأول “نبضات ضمير”، بعد أعوام طويلة تواصلنا خلالها وإن لم نلتق إلا في هذا الحفل في بداية شهر شباط لهذا العام 2023م، بينما القلم جمعنا منذ زمن طويل، فكنت قد كتبت قراءة نقدية عن نصها “سعاد” في بداية مسيرتها الأدبية ونشر في كتابي “فضاءات قزح”، وربما كنت أول من انتبه لموهبتها الأدبية وكنت أول من كتب عن باكورة ما كتبت ونشرت.
الكتاب معنون على الغلاف بكلمة “نصوص” وبذلك أخرجت الكاتبة كتابها من مجال النقد المنهجي الذي يتعامل ضمن قوانين مع الرواية والقصة والشعر، وما عدا ذلك من نصوص عابرة للتجنيس فليس هناك قواعد تحكمها نقديا وتبقى بعض من بوح الروح، والكتاب الصادر عن دار طباق للنشر والتوزيع/ رام الله في العام 2020م يتكون من أربع وسبعين صفحة من القطع المتوسط وثلاثة وثلاثين نصا، وغلاف جميل لعصفور وحقل يتدرج بالألوان من اللون البني الداكن بالأسفل حتى الأصفر المشرق بالأعلى، والغلاف الأخير حفل بأحد النصوص من الكتاب وكان امتداداً لتصميم الغلاف الأول، وقدمت للكتاب بكلمات هامسة جميلة ومختصرة الكاتبة دينا سليم حنحن الفلسطينية من العمق الفلسطيني والمقيمة في أستراليا، بينما الاهداء من الكاتبة كان عائليا لأمها واختها في ذمة الله ولولديها ووالدها الداعم لحرفها ولكل من أحبت روحها، وزينته بعبارات شكر لأصدقاء وصديقات.
في “حكاية دمعة” وهي النص الأول نجد أنه نص من سبع فقرات منفصلة عن بعضها على شكل ترنيمات وإن كان رابط من ألم يربطها، وفي النصوص الأخرى سنجد نفس الأسلوب؛ عنوان وتحته عدة فقرات قد يربطها رابط مشترك أحيانا وقد لا يربطها، فوجدت نفسي أمام عبارات جميلة بشكل عام ولكنها أشبه ما اعتاد الناس على كتابته على صفحات التواصل الاجتماعي وخاصة “الفيسبوك” وتعارفوا عليها بإسمها الأجنبي “Posts” وأرى أنها همسات وجدانية حفلت بالدفء والحنين وجمال الأفكار فيها، ومن هنا جاء اسم الكتاب فالكاتبة ترى أن ما ضمته في هذا الكتاب هو مجموعة من الهمسات والتغاريد وبالتالي ليس صنفا أدبيا مجنساً ومُعرفاً.
وسيلاحظ القارئ بين هذه الهمسات الكثير منها للأم بحيث بالكاد تخلو مجموعة من مجموعات الهمسات والتغريدات من ذكر الأم التي رحلت، وفي معظم هذه الهمسات التي تخاطب أمها الراحلة نجدها بين الشكوى لها أو تعبر عن أحاسيس ومشاعر، ففي مجموعة “حكاية دمعة” تقول: “هي الحياة يا أمي.. ضربتان موجعتان، واحدة على الرأس والأخرى على الوجنتين”، وفي مجموعة “حلم بين مصراعي الدرب” تخاطب أمها أيضا بالقول: “اليوم يا أمي أتذكر أكثر، وهذا الأكثر لا يضايقني، بل يريحني أكثر”، وفي نص “نسمات دافئة” تخاطب روح أمها بالقول: “هي الشمس يا أمي علمتني أن اشرق من بين الغيمات، فهناك من ينتظرني رغم الظلام”، ونجد مجموعات بالكامل تخاطب روح الأم الراحلة مثل: “عشرون وذكريات” و”تهنئة دامعة” و”ظمأ الشوق وحنين اللقاء” و”صمت الأشواق”، وتقريبا في كل مجموعة نجدها تخاطب روح أمها الراحلة، وفي تغريدات وهمسات تخاطب الحبيب أيضا فنجدها في نفس المجموعة تقول: “صامت نايي هذا المساء يا حبيب الروح، صامت بصخب أوجع هذا القلب بأنين البعاد”، وكذلك في مجموعة “ساعتي شتوية بامتياز”، بينما في مجموعة “صدى الأحلام” نجد الهمسات حوار بينها وبين الحبيب.
وتخاطب الصديق والصديقة كثيرا حتى أنها تخاطبهما في المجموعة الأولى مرتين، وفي الثانية تقول: “صديقي.. في زيارة الغائب نظرة تأمل وأسئلة استفهام تتلاحق وتتزاحم لعناق الشوق بشغف كبير”، بينما خاطبت الصديقة في فقرة اورد مطلعها: “صديقتي.. خذي من طحين محبتك حفنة..الخ”، وصفة الصديق والصديقة في المخاطبة تتكرر في نصوص كثيرة مرة بصيغة يا صديقتي ومرة بصيغة صديقي ومجموعة “عتاب الوجع” مثال لذلك، وأيضا نجدها تخاطب نفسها أيضا كما في مجموعة “خريف في مشاعر” حيث تقول: “لا أكتب الطلاسم، هو واقع يقع على الحد الفاصل بين زرقة السماء وشجرة صفصاف حزينة بحجم عتمة المساء”، وفي مجموعة “حلم بين مصراعي الدرب” تهمس لنفسها: “هذه الساعة تحمل عقارب الزمن وهذا الزمن يحملني على جناح الأمل”، وكما في مجموعة “غروب” حين تقول: “ويأتيني فجر يوم جديد أستبشر به خيرا، أصالح الذات، لأراني ملفعة بشال الغربة ومنتعلة صقيع الظلم على أرض الظالمين”، وفي مجموعة “موجات برد دافئة” بقولها: “كوني قوية يا نفسي، فليس بالموت وحده تموت الأزهار”، وتتكرر الهمسات من الذات للذات في العديد من المجموعات مثل “ريشة وخريف”، وتهمس بأحاسيس بدون أن توجهها لأحد محدد كما في نص “خريف في الكلمات” بقولها: “رباه أرفق بحالة التائهين المغتربين” وفي أكثر من مجموعة منها “قطار وذكريات” و”بطاقتي ليست للبيع”.
عبر هذه المجموعات لا تنسى الأب ايضا ففي مجموعة “همسة الجلنار” تهمس للأب بالقول: “أسيرة أنا يا أبي، وحريتي في سجن الذات تفك أسر قيودي والإختناق”، وفي مجموعة “ومضة دافئة” بقولها: “لا تاريخ للميلاد، لا تتعثروا برزنامتكم، هو الميلاد يا أبي”، ويكون للأبناء حضور ومثال ذلك في مجموعة “عناق واشتياق” بقولها: “عناق بلا حدود لفلذات الروح.. أبنائي في الحياة والربيع”، وأيضا في مجموعة “شرود حرف” بقولها: “هي الثقة يا ولدي.. لا تقبل المفاوضات” وفي مجموعة “همسة غائمة” بقولها: “لا تخافي بنيّتي، فالذاكرة القوية تجمّل حياتك بأمل ونسيان”.
لم تكن الشخوص هي وحدها التي تخاطبها الكاتبة، ففي مجموعة “دموع الأسرار” نجدها تخاطب الطبيعة بمخاطبتها السماء: “أبرقي يا سماء وحلقي عاليا يا عصافير الروح” وتطرح تساؤلات في العديد من النصوص ومثال ذلك في مجموعة “أسرار دمعات عاتبة” حين تطرح سؤالها: “وتبقى الحكاية باستفهامها لماذا مات البطل وتزوج الراوي وتيتمت تلك المسكينة؟”، وفي مجموعة “وجع حلم عابر” تتساءل: “أيها الحلم الآسر وسادتي، أين أنا من تلك الأحجية؟”، وفي نص “خاطرة الوجدان” بالسؤال: “هل امتلأ قلبي حبا ففاض وأزعج روحك الحائمة على شاطئ النسيان؟”، ولا تتوقف عن التساؤلات في مجموعة “مجرد هل”، بينما في مجموعة “برقية لأيار” نجدها تخاطب الشهر فهي ترى أن: “الأول هو أول أيار والحكاية حكاية الكادح الجبار” وهذه العبارة من خاطرة في المجموعة خرجت فيها عن فكرة الهمسات، وأيضا تخاطب العام المنصرم والقادم في نص “تحية وعيد” بينما في مجموعة “الأرض صديقتي الوفية” نجدها تؤنسن الأرض وتخاطبها كما تخاطب إنسان فتقول من ضمن الهمسات: “عانقيني أيتها الوفية، وسامحي قدميّ إن داستا على ترابك المقدس بعفوية”، وتشير بالهمسة الأخيرة من المجموعة ليوم الأرض الذي ارتوت به الارض بشهداء شعبنا الفلسطيني من العمق الفلسطيني المحتل عام 1948 وتناشد الأرض أيضا بالقول: “أصرخي أيتها المصلوبة، فصراخك حزمة شوك تناثرت على جبال أضغانهم”، بينما نجد مجموعة “وجه آخر للنسيان” بأكملها عبارة عن شكل من أشكال “الفلسفة” وكذلك نسبة من تغريدات مجموعة “رقصة الحبر على ورقة بيضاء” وفي مجموعة “رسمة حجر” نجدها تخاطب القدر، وفي مجموعة “يوم وإمرأة” تتحدث عن يوم المرأة العالمي فتقول: “لنكمل مشوار العطاء، ببسمة أخرى من آذار المرأة”.
وفي نهاية هذه الإضاءة والتي أخذت بعض من همسات وأغاريد عدلة شداد خشيبون لتعطي فكرة عن الوجهات التي تخاطبها، نجد روحا انسانية عالية بين دفات هذه الهمسات والتغريدات وقد أشارت لها الكاتبة في مجموعة “ومضة دافئة” بقولها: “إنسانيتي ليست للبيع”، ولكن نلاحظ أن هناك كم من الألم يحيط بروحها حيث نجدها في العديد من الهمسات تصف نفسها بالأسيرة، وتشير للظلام من حولها وتشكو الوحدة، ويلفت النظر موقفها من الغزاة وتألمها منهم كما خاطبت صديقتها في مجموعة “همسة الجلنار” بالقول: “لا تسألي صديقتي عن أحوال الغزاة، هم بخير، وألف ألف خير”، وهي تنتمي للكادحين والعمال وتهمس لهم، وتلتصق بالأرض والوطن بقوة وتعتبر الأرض صديقتها الوفية، تشير لإنتماء الكاتبة لوطنها وفكرها.
وهذه الهمسات والأحاسيس المرسومة بالكلمات الرقيقة والملامسة للروح وبعبارات قوية ومكثفة، أعطت للكاتبة درجة أخرى في سلم الكتابة والابداع تضيفها لما سبق من كتبها، ولكن كما يقول المثل: “لكل جواد كبوة” فكانت الكبوة باستخدام كلمة “الروزنامة” في مجموعة “ومضة دافئة” وفي مجموعة “تحية وعيد” علما أن هذه الكلمة فارسية ودخيلة على العربية ومكونة بلغة الفرس من مقطعين: روز وتعني يوم ونامة وتعني كتاب، والبعض يرجعها الى اللغة الكردية أيضا، وكان الأجدر بالكاتبة وهي تحمل الشهادة الجامعية باللغة العربية وعملت بتدريس المرحلة الثانوية اللغة العربية أن تستخدم كلمة تقويم العربية.
“جيوس 14/11/2023”
الكاتب الإعلامي زياد جيوسي