لن نجد كبير عناء في استجلاء وضع الإنسان في عصر العولمة, فلقد أفصح عرابو العولمة( في وقت مبكر) عن الخطوط الرئيسية لتصوراتهم للعالم المستقبلي، حيث أوضح توافق واشنطن – والذي يعتبر الانطلاقة الحقيقية للعولمة- أن آلية الأسواق والتنافس الحر غير المقيد سيكون المعلم الرئيسي في النشاط الاقتصادي العالمي, وهذا بالطبع يترتب عليه هيمنة التكتلات الاقتصادية الكبيرة على مجمل النشاط الاقتصادي وذلك لعدم قدرة أي نشاط اقتصادي محدود على المنافسة، وهذا يعطي ميزة تنافسية للشركات المتعدية الجنسيات لكي تسيطر بالكامل على الاقتصاد العالمي، لقد أصبحت المؤسسات الاقتصادية الصغيرة تتجمع فيما بينها لتشكيل عملاق اقتصادي يمتلك قدرة تنافسية.
ما هو مصير الإنسان في ظل هذا الصراع بين العمالقة، ونقصد بالإنسان هنا(( فقراء العالم))، ماذا يفعل فقراء العالم وسط هذا الصراع بين الجبابرة، ولقد أثبتت الإحصائيات أن الفقراء يشكلون 80٪ من سكان العالم، ويتجلى وجه الكارثة التي ستحل بفقراء العالم إذا ما علمنا أن المشاريع الاقتصادية القادرة على التنافس والوقوف بوجه الكبار تحتاج إلى بنى تحتية تقدر كلفتها بمليارات بل ترليونات الدولارات، وهذا يؤدي إلى نتيجة حتمية وهو إقصاء الفقراء واقتصاد الفقراء إقصاء تاماً من النشاط الاقتصادي العالمي.
وإذا ما حاول فقراء العالم من دول ومجتمعات عزل أنفسهم عن صراع الجبابرة هذا والانزواء داخل دولهم الفقيرة ومجتمعاتهم المحلية ومزاولة نشاطهم الاقتصادي الفقير, فلن يكون هذا متاحاً لهم البتة، فالعزلة في هذا العصر أصبحت ترفاً بعيد المنال، فإذا كان اقتصاد الفقراء يستطيع من الناحية النظرية بناء مؤسساته وآلياته الخاصة به في الإنتاج والتسويق، فلسوف يجابه بحاجز آخر لم يخطر له على بال، وهذا الحاجز هو الوجه الآخر للعولمة، إنه المنظمات الدولية، فإذا كانت الشركات المتعدية الجنسيات هي الواجهة الاقتصادية للعولمة، فإن المنظمات الدولية وعلى اختلاف مسمياتها من الأمم المتحدة إلى صندوق النقد الدولي إلى منظمة النقد الدولي ومنظمات حقوق الإنسان ومنظمات الثقافة والصحة الدولية، تعتبر رديفاً مهماً لنشاط هذه الشركات وذراعها الضاربة، وتستطيع أن تحارب اقتصاد الفقراء تحت شتى الذرائع مثل حقوق الملكية الفكرية، والدفاع عن الديموقراطية والحريات وحقوق الإنسان، ومكافحة الإرهاب والقائمة تطول وتتنوع لتصل إلى حرب قذرة ضد اقتصاد الفقراء كان آخرها مؤامرة انفلوانزا الطيور التي قضت بالكامل على عشرات آلاف المشاريع الصغيرة لتربية الديك الرومي والدجاج، لقد أقدمت الحكومة المصرية على سبيل المثال على تدمير المشاريع الصغيرة وبقوة القانون مدعومة بتعليمات وقوانين المنظمات الدولية التي تعمل كلها في خدمة الشركات العملاقة، والقضاء على المشاريع المحلية الصغيرة يعني مزيداً من الاستيراد ومزيداً من الاعتماد على الخارج في كل مقومات حياتنا من غذاء ودواء.
لقد أصبحت الخطة محكمة إذن ولم يعد هناك من أمل لفقراء العالم لكي يبرزوا كقوة اقتصادية منافسة، وليصبح العالم بأكمله ملكاً لحفنة قليلة من أصحاب المال، وسيدفع فقراء العالم المزيد والمزيد من الأموال لشراء حقوق الملكية الفكرية، مثل برامج الكمبيوتر وترجمة الكتب العلمية، وصناعة الأدوية، وإذا كان فقراء العالم يعتقدون أن الحكومات الوطنية ستحميهم من غول العولمة فإنهم واهمون، لأن الحكومات الوطنية ستكون هي أولى فرائس العولمة، لأن العولمة تهدف أساساً إلى إضعاف سلطات هذه الدول، وتجعلها تتآكل شيئاُ فشيئاً إلى أن تصبح عاجزة على الوفاء بالتزاماتها تجاه مواطنيها، ولقد أدت سياسات صندوق النقد الدولي في إقراض الدول لسد العجز في الموازنات إلى التغلغل شيئاً فشيئاً في أجهزة الدولة الاقتصادية ومؤسساتها السيادية حتى أصبح صندوق النقد الدولي هو الذي يرسم السياسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بحجة مساعدة الدولة بالوفاء بالتزاماتها الدولية وحماية الاستثمارات الخارجية، وهكذا أصبحت الكثير من الحكومات مجرد حارس وراعي لرأس المال الخارجي، وكما أسلفنا فإن الرأسمال العولمي يستطيع أيضاً (لحماية نفسه) أن يستعين بالمنظمات الدولية، مما يعني خرق سيادة الدول.
لقد أثبت الاستثمار العولمي أنه استثمار شرير وهو يرفع شعار” التقدم الاقتصادي بأي ثمن” وهذا الاستثمار لم يعد بأي فائدة على الاقتصادات الوطنية بل أدى ويؤدي إلى المزيد من البطالة، والى تخريب البيئة، وإن الكثير من المشاريع والاستثمارات الخارجية أدت إلى إحداث أضرار بالبيئة يحتاج إصلاحها إلى أضعاف العائدات المترتبة عن هذا الاستثمار,علما أن عائدات الاستثمار تذهب بالكامل إلى رأس المال الأجنبي وسماسرة الاستثمار في الدول النامية.
ويؤدي النشاط العولمي أيضاً إلى تفتيت الهوية الوطنية وذلك عن طريق فرض أنماط عالمية لا تتناسب مع الهوية الوطنية، وهذا ما أصبحنا نلمسه من خلال مشاريع العمران كالمطارات والفنادق والتجمعات السكانية، فلم نعد قادرين على التفريق بين مطار دبي ومطار فرانكفورت مثلاً، والداخل إلى فنادق العواصم العربية يقع في حيرة من أمره حتى ليعتقد أنه في أحد العواصم العالمية.
إن الدخول في عصر العولمة يعني أن تبادر الدول النامية ومن خلال ارتباطها باتفاقيات التجارة العالمية إلى فتح أسواقها على مصراعيها، مما يعني المزيد من المشاكل للصناعات المحلية والمشاريع الاقتصادية الوطنية، وبالتالي المزيد من البطالة وتضاؤل فرص العمل.
لقد أقدم منظروا العولمة على مهاجمة دولة الرفاه والتي كانت أحد إفرازات الاشتراكية المهمة فلقد كانت دولة الرفاه تقدم خدمات مجانية لمواطنيها في التعليم والصحة والرعاية الاجتماعية، ومخصصات البطالة والفقر، ولازال مواطنو الدول الاشتراكية السابقة مثل بولندا ورومانيا وروسيا، ويوغوسلافيا بحنون إلى حقبة دولة الرفاه بعد التحولات الرأسمالية التي أفقدتهم هذه المكاسب وتركتهم صرعى المرض والفقر والجهل بعد انهيار شبكة الرفاه التي كانت تقودها الدولة، ونحن نرى أن أعلام كبار في علم الاجتماع مثل أنطوني جيدنز يهاجم شبكة الرفاه ويعتبرها معوقاً أساسياً أمام حرية المنافسة وحرية الأسواق وأنها تخلق طبقة من المتواكلين والمتعايشين على خدمات الرفاه، ويهدف منظرو العولمة إلى سحب أي غطاء أو حماية يمكن أن تتوفر للإنسان لكي يصبح فريسة سهلة تتحكم به قوى العولمة وتسيطر على مقدراته وتسلبه هويته وثقافته الوطنية ويصبح بالتالي ألعوبة بيد قوى شريرة لا ترحم لا هم لها سوى النهب والشفط.
وبالرغم من أن العولمة تلقى رفضاً في الكثير من دول العالم وتجابه أنشطتها بالكثير من الاحتجاجات من اليسار العالمي إلا أننا لابد لنا من الاعتراف أن هذا الرفض والاحتجاج مشلول الفاعلية وذلك بسبب هيمنة الرأسمال العولمي على الترسانة الاعلامية العالمية التي تطمس الأصوات المعارضة لها، وتضع الحقائق المزيفة عن مزايا العولمة وفائدتها للدول, مضللة جماهير الدول النامية, ويبدو أن ميزان القوى قد مال بشكل كبير لصالح الرأسمالية العولمية، بما تمتلكه من ترسانة هائلة من الشركات المتعدية الجنسيات وكذلك السيطرة الكاملة على الإعلام وتزييف الوقائع والحقائق, بالإضافة إلى سيطرتها الكاملة على المنظمات الدولية التي أصبحت منفذاً أساسيا لسياسات الشركات المتعدية الجنسيات.
ومن المفارقات الكبيرة أن العولمة تدعو إلى إقامة سلام عالمي وإلى نظام عالمي جديد إلى آخر هذه المقولات، وهي تريد صرف النظر أنها- أي العولمة- هي وليدة رأسمالية قامت أصلاً على الاستغلال وتدمير البيئة وعدم العدالة في توزيع الموارد الطبيعية والمادية والمعلوماتية، فهل هذه العناصر التي قامت عليها الرأسمالية تستطيع إقامة سلام عالمي كما يدعون.
وتسعى العولمة بالطبع إلى عولمة اللغة والثقافة والأخلاق، فهناك تنظيرات مهمة حول إيجاد أخلاق عالمية ولغة عالمية ( الإنجليزية طبعاً) ومنظومة قيم عالمية، ونمط معيشة عالمي، وعملة عالمية، كل هذا بالطبع نزوع نحو القضاء على الخصوصيات الوطنية, وينتهي الأمر إلى أن تصبح ثقافات الشعوب عبارة عن مهرجانات وطنية وعقائدها عبارة عن ميثولوجيا وثقافاتها تصبح في عهدة المتاحف.
وها نحن نرى أن العولمة تسير بنا نحو المصير المشئوم الذي حذر منه المهاتما غاندي، لقد حذرنا غاندي من خطايا العصر القادم وهي سياسة بلا مبادئ، وتجارة بلا أخلاق، وثروة بلا عمل، وتعليم بلا تربية، وعلم بلا ضمير، وعبادة بلا تضحية، ولكن عصرنا وقع فريسة كل هذه الخطايا تقوده في ذلك قوى العولمة الشريرة.
الباحث الفلسفي والناقد الأدبي مجدي ممدوح