الخجل بالنسبة لفهمي الشخصي؛ هو رد فعل ينتمي للحياء الإنساني الطبيعي للشخص، ذلك السلوك الذي من بين سلوكيات أخرى ميزت الإنسان عن كل من وما سواه من الأحياء. يكون مدعاة للمديح وحسن الأخلاق وقرين بحزمة مجاورة من الصفات الإيجابية للإنسان.
كل هذا كان قبل أن يتحول إلى مرض. من الذي حوّله إلى مرض؟
قررت جمعية التحليل النفسي الأمريكية في عام 1980، أن الخجل (هكذا دون تحديد درجاته) مرض نفسي، وضمته إلى مؤلفها السنوي (المرجع في الاضطرابات الذهنية) الذي يتكفل به بصورة دورية عباقرة العلم. ولأنه مرض، بات بحاجة إلى أدوية. وهذه ستتكفل بها وتوجدها مختبرات ومصانع، ستجني من وراءها ثروات مضافة من بيع (الوهم)؛ الأمل بالشفاء للمرضى المصابين بهذا الرهاب الاجتماعي الصارم..!
لكن، لنتأمل هذا الأمر، ليس من زاوية الصناعات الدوائية الكبرى، لهذه المؤسسات مقاييس قد يكون أحدها أن (سوء الصحة يساوي صحة جيدة) أو (صحة جيدة يساوي كساد وعطالة لصناعاتها)، لنتأمله من زاوية أخرى؛ زاوية اجتماعية – اقتصادية.
منذ صعود نجم النظام الرأسمالي وتسيّده على كافة الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لعالمنا، برز معه شعار بغاية المنطق والمعقولية، الشعار يقول: “دعه يعمل.. دعه يمر”. شعار قد تحول إلى منهج حياة وسُنت القوانين لحمايته. الشعار ينسجم تماماً مع الفضول الذي يمتاز به الإنسان دون سائر الكائنات، لأنه الكائن الوحيد في الطبيعة الذي لا يقتنع بما بين يديه، يظل يبحث عن الجديد وعن كل ما هو خلف الأفق. فضول قابل لأن يتحول وبسهولة إلى شراهة لا توقفها غير كومة تراب على قبره.
ظل الشعار قاطرة هائلة من الآمال والأحلام التي تحقق الكثير منها على الصعد الفردية أو الاجتماعية، يكفي القول أن تلك القاطرة من الأحلام والآمال المدفوعة بالفضول، قد نقلت وفي وقت قصير نسبياً الإنسان من مجرد كونه بهيمة منشدة إلى الطبيعة وأمزجتها إلى متجبر قادر على الإنفلات وغزو الفضاء. حدث كل ذاك، قبل أن تجري تحولات على الشعار وانتقاله من صيغة “دعه يعمل.. دعه يمر” إلى صيغة جديدة غير مكتوبة لكنها ممارسة صيغة “دعه يربح.. دعه يمر”.
الآن وبما أن عالم الربح عالم هلامي قد تكون له بدايات على صعيد الأفراد والجماعات، إنما الشياطين لا يعرفون كيف وأين سيتوقف. صعود لا يريد التوقف وأن تسبب بدمار وجرائم وكوارث للإنسان وبيئته. ظلت الأرض وما زالت تئن من فقدان رئتها (غابات الأمازون) بعد أن فقدت (غابات أفريقيا)، الأوكسجين مهدد بالنفاذ، بلدان وشعوب افتقرت وأصبحت لاجئة في أراضيها غير الصالحة لشيء، الوقود الأحفوري سوّد وجه الأرض وشعوبها.. كل هذا بسبب شراهة الشركات التي كل واحدة تمتلك ميزانيات تفوق ميزانيات دول. مشاريع ربح منفلت من عقاله، ما كان لها أن تستمر، دون أن ينزع القائمون عليها تلك النقطة التي قيل أنها على الجبين، نقطة الحياء أو الخجل.
وأمامنا اليوم تجليات زوال هذه النقطة بما نراه ونسمع عنه؛ من تحالف اقوى الجيوش وأغناها الحائزة على أسلحة قادرة على إبادة كل سكان الأرض، يتحالفون ويتآمرون على شعب صغير من مليوني نسمة يعيش على قطاع من الأرض بحجم سجن محاصر من كل جانب. شعب مجرد من كل أسباب الحياة الطبيعة، شعب عاش طيلة السبعين سنة الماضية على المساعدات التي تصله من مؤسسة للأمم المتحدة اسمها الأونروا. لا لشيء إلا لأن هذا الشعب انتفض على سجنه وسجانه وأراد الخروج في فعل هو أقرب إلى الانتحار، وهل كان يملك غيره..؟
الآن وقد ظهر أن هذا الشعب عصي على الانكسار برغم كل المجازر التي ارتكبت بحقه، ليس هذا فقط بل ونجح ضحايا سابقون لجرائم الفصل العنصري والإبادة الجماعية (جنوب أفريقيا) برفع دعوى قضائية وكسبوها إلى حد ما في محكمة العدل الدولية نصرة للضحية الذي يعاني نفس معاناتهم السابقة. ليسارع الرابحون المتحالفون إلى آخر ما في جعبتهم من أفعال الخزي والعار. قرروا أن مؤسسة (الأونروا) المؤسسة الأممية التي يُفترض أنها الشريان الوحيد المتبقي لحياة السجناء في هذا القطاع؛ قالوا أنها لم تعد محايدة. عليه قاموا بتعليق مساهماتهم فيها. بهذا الفعل الشيطاني جرى الشطب على مكسب الضحية في محكمة العدل الدولية. لكن، هل ما زال الأمر يتعلق بإزالة نقطة حياء من الجبين، أم أنهم يغسلون وجوههم ببولهم صباح مساء.. ؟
الروائي والقاص كريم كطافة