ثقافة الصورة الافتراضية

إن أجمل ما في مكونات الصورة هي أنها خلقت عالما موازيا للواقع يسميه نقاد الثقافة والأدب بالواقع الافتراضي.

وهذا الواقع هو ذلك الفضاء من المعلومات والرموز والصور التي أنتجتها وسائل الإعلام والاتصال وتحولت إلى ما يشبه البديل عن الواقع المادي الذي تنقل صوره في هذا الواقع الفضاء لتتحول الحروب والأحداث الكبرى إلى مجرد منظومة من الصور التي يستهلكها الإنسان المعاصر في أمكنته الخاصة خارج سياق إنتاجها وبمعزل عن وجهة النظر أو المواقف الفكرية والسياسية والإنسانية التي أنتجتها الصورة الثقافية..

ذلك أن الصورة كمعطى تقني لا يمكن أن تكون حيادية مهما فرضت طبيعتها من وهم التطابف الحرفي مع الواقع..

إن إمكانية وجود الصورة خارج الزمان والمكان سمة كافية لتحض وهم مطابقة الواقع وموضوعية الصورة المطلقة..

وكما يبقى السؤال أمامنا : هل تعتر الصورة عن الوقاع الذي تحكمه الثقافة

لقد كرست خلال العقدين الماضيين مصطلحات عديدة في مجال الإعلام والثقافة وعلوم الاجتماع, وكلها مصطلحات تحولت إلى تعبيرات تشبه الايقونات في قدرتها ونوزعها نحو اختزال العصر الذي نعيشه وتمثيله من خلال سمات مطلقة وثابتة..

ومن أهم تلك المصطلحات أو التعبريات ما نستخدمه يوميا للدلالة على واقع الحياة المعاصرة مثل ( عصر المعلومات), ثقافة الوسائط المتعددة, وعصر الإعلام المفتوح, وعصر الانترنت)) وغيرها من المصطلحات التي تدور في فضاء توصيف ظاهرة واحدة هي سيطرة أدوات نقل وتوزيع المعلومات على مختلف نواحي النشاط البشري, وإذا كانت التعبيرات توصيفاً لواقع, فإنها من ناحية دلالية أدت إلى المساهمة في تكريس وهم مفاده أن الزيادة الكبيرة والتعدد في مصادر المعلومات وطرق نقلها وتوزيعها يؤدي بالصورة إلى زيادة موازية في المعرفة, وفي السنوات الأخيرة بدأت بعض الجهود العلمية والفكرية تنظر بتشكك إلى تلك الفرضية التي تحولت إلى مايشبه المسلمات في المخيلة العامة, وإذا كان من البديهي التأكيد هنا على أن الثورة المعلوماتية والإعلامية قد أتاحت فضاءات معرفية جديدة وأدت إلى واقع يرفض فكرة احتكار فرض التعبير, فلا بد من الإشارة إلة مسألة في غاية الأهمية وهي مسؤولية الثقافة الاستثنائية في هذا السياق.. إنها مسؤولية المثقفين في أن ينتجوا قراءات نقدية لصور العالم المتداولة إعلامياً وإلكترونياً وألا يُكتفى بالتماهي مع تلك الصور, وربما كان الأجمل والأكثر إبداعاً في الواقع السياسي والثقافي المعاصر أن يدخل المثقف في مكونات صور هذا الإنسان المثقف ومسؤولية المثقف ومسؤولية المثقف تبدأ من فعل التفاعل العميق والكامل مع وسائل التقنية الحديثة بهدف توظيفها من وجهة نظرة الإنتاج معرفة نقدية تنطلق من إدراك عميق لعلاقة الصورة والمعلومة بالواقع وبالتجربة حيث تتمحور مكونات الصورة ضمن وظيفة هيكلية نظرية تلتزم بالإنتاج الثقافي الموضوعي هدفها تنوير عقل البشر ونقل الحدث المتاح للجميع, عبر هذا العصر, يمكن ضرب مثل على ذلك, التقرير الإخباري بحاجة صورة واقعية, والمقال بحاجة إلى صورة افتراضية أيضاً مما يجعل القارئ أو المتلقي أن يقارن ما بينهما, والصورة هي دليل على صحة الخبر أو الحدث, وبالتالي إن انسجام التوافق بين الصورة والثقافة بفعل إنتاج التطور الفكري تضمن تخطيط معرفي منهجي, وهذه نظرية ضرورية في زمن التغير والتحرير وصعوداً نحو الأفضل..

فالصورة الثقافية الواقعية قادرة أن تلقي المعلومات وتحليلها بمعايير علمية تحول تلك المعلومات إلى معرفة تزدهر بنعمة الرخاء والتطور وتضيء العصر البشري في انتاج الفكر القائم على طريقة تطور هذا الانتاج والفكر من خلال تأثير الصورة الثقافية والانسجام النظرية التعبيرية المتوافقة مع الإنتاج الفائض في تصدير الثقافة المختلفة بمواقع الفكر التنويري ما لخصوصية الثقافية الواقعية للانتاج الموضوعي الذاتي الذي يترك للواقع الصامت شخصيات تقليدية هامة ضمن عملية تغير نسبي أو كلي في واقع التغير الثقافي الذي قام على بناء خصوصية الصورة التاريخية في منهج قائم على مقتضيات واقعية في صور ضرورية لعصر الفكرية والعلمية ضمن مكونات الصورة المنهجية النابعة من الواقع أو فعل الحدث تحول العالم إلى ثقافات حضارية إنسانية

لا يزال العالم في خضم تجارب تعيد طرح الأسئلة بشكل متجدد يبدو أكثر تعقيدا وغنى من إمكانية التأطير النظري وفي خضم التجارب العاصفة التي نعيشها تبدو الخطوة الأولى معرفيا أن ينطلق المثقفون والمبدعون من موقف أخلاقي ينظر إلى العالم من خلال واقع تعدديته وحركيته ومن هنا على المثقف أن يكافح إلى النهاية تلك الآليات المعقدة التي تحاول أن تفرض عليه قدر التماهي والخضوع إلى صور العالم المتداولة بين حدث الزمان والمكان ..

نقل الصورة بالخير…

يجب علينا معرفة لفظة الإعلام و ما ذا تعني لنا الإعلام في اتجاه واحد للرسالة, وهي كما معروف الخطاب المنقول من طرف إلى آخر, ومن هنا تظهر أهمية الإعلام ووسائله ووسائطه باعتباره أدوات تشكل معرفة, و أدواة سلطوية ناعمة فكانت أولى عناصرها الصورة..

إن تحول المعرفة إلى صورة كنتيجة حتمية لثورة الاتصالات والمعرفة, و الصورة هي جزء أصيل من الفكر المعولم القائم في أصله على عولمة النموذج الاقتصادي القائم على أساسين و هما: السعلة والمشتري, ومن هنا كان التزايد الواضح في استثمارات رأس المال في الإنتاج السمعي والبصري في منطقتنا, باعتبارها جزءا من العالم, وجزءا مستهلكا بامتياز, وهو تزايد على عكس ما تدعيه حداثة عصر المعرفة والاتصالات من نشر الوعي والثقافة, و لقد انحسرت تلك المجهودات في برامج الترفيه والاستهلاك والقائمة على التسليع والبهرجة الصورية, فكانت عاملا معززا للمخاوف من الصورة التلفزيونية والإعلامية المرئية,و المخاوف التي, و للعدد من الأسباب, لم تخط بأي جهد لمساءلتها واستنطاق ارتهاناتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والفنية والحضارية بل وأيضاً السياسية, مما جعل فضاء الإعلام الخاص فضاء موازيا للإعلام الرسمي الذي تسيطر عليه الدولة من حيث أن الفضاء الحكومي, و هو يهدف بالنهاية إلى إكمال السيطرة على الوعي الجمعي للشعوب, في تماه أو تواز للارتباط بين رأس المال والنفوذ السياسي..

وذلك بأن جعل الصورة والتي هي بألف كلمة, كلمة للأميين, كما تقول العامة, فأصبحت الصورة إجابة جاهزة ومصدقة لها وثوقية لدى الحاسة الإنسانية علة المسلمات والصورة النمطية المعلبة, بل إنها كذلك رسخت فيها خاطئا للصورة, ينطلق من كون الصورة لغة عالمية تتعدى الثقافات واللغات, ويدركها الجميع بالصيغة نفسها وهي تستطيع لا يتحقق إلا في خطاب إعلامي يراد لصورته ألا تقدم سؤالا أبدا..

سلطة الصحافة من خلال وسائل الإعلام: لقد أصبحت الصورة دليلاً حياً على سلطة و سائل الإعلام ونفوذها المتزايد بيننا وبين الواقع والأشياء المادية من حولنا,إلى إنتاج واقع يملك أهميته ومكانته أكثر من الواقع المرجعي نفسه والذي يجب أن يحتل الصورة إليه, بل إن حقيقة ذلك الواقع المرجعي, أمست تقاس بمدى قربها من الصورة وتطابقها معها,إلى أن أصبحت الصورة في حد ذاتها مرجعاً, مما أدى إلى تشكيل الوعي سائلا مبنيا على خارطة إدراكية فردية أو جماعية, سائلة كنتيجة يسهل تشكيلها متى كان الوعاء جاهزاً بما يسمى حضور الكوكبة الذهنية المناسبة, و لذا فبقدر ما للمادة الصورية وتأثيرها على المتخيل الجمعي من أثر جامع

للشعب والأمة بحسب- ريجيست دوبرييه- كما السنما والتلفزيون, فللصورة أيضا خطاب سلطوي له نفس التأثير المفرق باستخدام نفس المتخيل الجمعي..

علاقة الصورة بالتكنولوجيا: عن علاقة الصورة بالتطور التكنولوجي, قد يرى البعض أن المادة المصورة للجماهيريا والتي مكنت العامة من تسجيل الحدث ساعة وقوعه بوساطة وسائل تكنولوجية بسيطة كالهواتف النقالة, وكاميرات اليد لها مصداقية, وبالذات إن كانت تمثل موقف النور في وجه الرصاصة, كما هو الحال في العديد من الأحداث, إلا أن مصداقية الصورة لتفاصيلها لا يعني بالضرورة ولا يعكس مصداقية خطاب نسق صوري ستتضح فيه ,ولا يمكن أن ينفي انتقائية المادة المصورة جماهيريا بما لا يشكك من مصداقيتها وموضوعيتها في انفصال عن أهداف الخطاب الإعلامي لتلك القناة وغيرها, وأداته الصورة ولا شيء أخر,وهذا يقودنا إلى النقل الحي للحدث باعتباره توحيدا بين الحقيقة والمعنى,حيث يندرج النقل المباشر تحت ما يسمى المسلمات والذي يتوازى فيه السرد مع بداية الحدث, فينسى المشاهد أن المسافة بين السرد والصورة هي مسافة بنا معنى وليست مسافة حقيقية, وهنا يكون الجر للمشاهد جراً سلسلاً وليّناً عن طريق وجاهة الاطلاع والمشاركة الحية في الشهادة على الصورة,تاركا حيز تشكيل وتلقي استقبال المعنى ملكا لخطاب إعلامي كلامي يقارب في بهرجته الحقيقية الصورة المطاقة والخاطفة للأبصار, ليصبح للنقل الحي للحدث سحره فتغدو فيه الصورة التي لا تأتي وحيدة مرادفة للواقع و مرجعا له, تمارس تأثيرها فيه أيضا, لا بشكل بحثي نقدي بل الإحالة

الصورة في الفضاء الإعلامي:

إن الصورة في فضائنا الإعلامي لا تحقق الحقيقة,بحكم استحالة تحقيق قيمة حياد الإعلام المطلقة بالذات في عصر الصورة وهي السلعة المعلومة, وحتى بناء المعنى, ليس ها هنا بناء نقديا إنما الصورة هنا هي إغراء حواسي عاطفي هدفها تحقيق الإجماع حولها, بمنطق الخضوع للجماعة التي تنتمي الصورة – هرميا- في مرحلة ما لخطابهم وتضغط نحو استنساخ الصورة النمطية في إشكال صورة ولفظية تحرك الذاكرة الجمعية والمشتركة أو لتوظيف حدث ما لمصلحة ما, ومن هنا يمكن الإشارة إلى فضائيين ينزعان عن مبنى المعنى والحقيقة المفترضين في الصورة الإخبارية والتلفزيونية وهما:

أولا: الفضاء الذي تتحرك في القنوات الفضائية والأرضية والتي لا تزال فيه تابعة وخاصة في مجال الصورة للوكالات العالمية المتخصصة ووكالات الإنباء العالمية,مما يعني استتباعا وارتهانا لفضاءات تلك الصورة السياسية والثقافية والحضارية..

ثانيا: فضاء يتحدث بتاريخ عمليات التصوير منذ بداية عهد الفضاء الإعلامي العربي والذي لم يعد كونه أداة بناء الدولة الوطنية القطرية, و تجميد السياسات كأداة إيديولوجية للتجديد والتعبئة والشرعنة للحكم لدى قطاع واسع من المشاهدين, باغ الحد بهم تقديس النص الإعلامي بكامل أركانه ومثال ذلك ما تبثه الجزيرة والعربية و البي بي سي وغيرها من قنوات مغضية وان كانت أداة إحداثية تتلبسها مقولة مرجعية العقل, إلى أداة سيطرة على العقول مما يؤدي إلى أن انتهاء الخبر من ناحية الصورة إلى كونه موارد اجتماعيا تودي آليات تشكيله إلى إنتاج سلسلة من القيود والمحددات التي تؤطر بدورها أشكال المعرفة التي يمكن إنتاجها وتدعوها واقعا.

الكاتب والباحث الإعلامي د. فضيل حلمي عبد الله

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *