إبحار سردي في دروب حوار خمري مع أبي نواس

في قصيدة “حوار خمري مع أبي نواس”()، على وزن بحر البسيط، للشاعر (أحمد شلبي)، وفيها يتكئ الشاعر على صوتين سرديين أحدهما الشخصية المستدعاة عبر دورها “أبو نواس” وشخصية “أحمد شلبي”، وقد تماهى السارد مع الشخصية الأولى فهو الراوي والشخصية في آن، متحاورًا مع الشخصية الثانية وهذا التزاوج والتداخل حقق في النص الشعري ثراءً دلاليًّا اشتبكت فيه أزمنة سردية أدت إلى تعددية النص؛ تبدو في استهلال “أحمد شلبي” قصيدته بقولين يعبران عن رؤيتين مختلفتين حول موضوع واحد، فيقول:

(قُلْتُ: الوُقُوفَ .. فَهَذَا رَسْم مَنْ نَزَحُواقَالَ: الجَلُوسَ .. فَذَانِ الدَّنُّ وَالقَدَحُ
فَقُلْتُ: أَيَّتُهَا الدَّارُ الَّتِي شَهِدَتْمَا كُنْتُ مُلْتَمِسًا مِنْهُمْ .. وَمَا سَمَحُوا
بَكَيْتُ حِينَ تَذَكَّرْتُ ارْتِحَالَهُمُوَحِينَ نَاشَدْتُهُمْ صَفْحًا .. وَمَا صَفَحُوا
فَقَالَ: أَيَّتُهَا الكَأْسُ الَّتِي بَعَثَتْبِالرَّاحِ رُوحًا عَلَى الآفَاقِ تَنْفَسِحُ
“وَبَاتَ يَسْتَلُّ رُوح الدَّنِّ فِي لَطَفٍحَتَّى بَدَا ـ طَائِرًا ـ وَالدَّنُ مُنْطَرِحُ())()

يأخذنا عنوان القصيدة إلى محاورة بين الشاعر وأبي نواس ـ بأي معنى من المعاني ـ مع بعد ما بينهما زمانًا ومكانًا ورؤى، مما يثير في المتلقي مجموعة من التوجسات:

أولًا: الحوار مع نصوص أبي نواس واستنطاقها بما يشكل مفارقة تكشف الهوة بين زمانين: الأول زمنُ أبي نواس وما شهده في رحلاته في الحواضر المختلفة، والثاني زمن أحمد شلبي في ذات الأمكنة.

وثانيًا: مجيء كلمة (حوار) منكرة، تفتح المجال على مصراعيه لتبادل الحوار مع أبي نواس/القناع، بما تمثله هذه الشخصية المستعارة بدلالاتها الأخلاقية والتاريخية الموروثة على الحاضر الذي يحياه الشاعر بغية كشفه والنفاذ إلى عمق قضاياه لتنمحي ـ وقتئذ ـ فوارق الزمن.

وفق هذا الفهم يرتبط العنوان بوصفه سردًا؛ بعلاقة إيحائية ومرجعية مع سلسلة من الأفكار والرموز والرؤى التي لابد من البحث عنها لإدراك دلالاته، فهو يشير إلى الغائب المختفي في ثنايا الماضي وربما الحاضر؛ فقد اتصف العنوان بما شُهر عن أبي نواس من معاقرة الخمر وافتتاح قصائده بالحديث عنها، كما أن وصف الحوار بالخمري، يدخل بنا في سراديب النفس، حيث البوح بمكتتم الأسرار، حال الغياب، والاعتراف بما خفي حال مراجعة الكلام بين الشاعر ونديمه.

وقد اتسعت المفارقة لاستيعاب خطاب آخر هو خطاب الأقنعة، بما يمثله من رغبة مضمرة في الستر والإخفاء، وتسهم البنية الدرامية للنص في التعبير عن صوتين متصارعين؛ صوت الشاعر وهو صوت داخلي يتخفى وراء صوت القناع والذي استدعاه وتقنع به.

والمقابلة بين (الوقوف والجلوس) تصنع ثنائية ضدية، تضيق لتصبح بين وضعين، وتتسع لتصبح بين رؤيتين. فقد تباين موقف كل من الشاعرين، وتنبع مفارقة التضمين في البيت الخامس، من هذه اللحظات المتدابرة والآفلة، فـ “أبو نواس” الشاعر القديم كان يعالج اللحظة المقبلة، أما “أحمد شلبي” فيعالج اللحظة المدبرة. فهنا صوتان: صوت يدعو إلى الطلل وآخر يرفضه، وما بين الوقوف والجلوس، والقبول والرفض تقع أزمة الشاعر المعاصر وهو يعاين واقعه المتردي، مازجًا التاريخ بالواقع فيتداخلان ليقيما معًا بنية موحدة:

(قَالَ: الأَشَاوسُ .. قُلْتُ: الرُّعْبُ أَسْكَتَهُمفَلاَ يَبُوحُونَ فِي هَمْسٍ بِمَا لَمَحُوا
قَالَ: القَبَائِلُ .. قُلْتُ: النَّفْطُ أَغْرَقَهَاوَإِنَّ أَعْرَابَهَا فِي مَوْجِهِ سَبَحُوا
فَقَالَ: أَنْعِمْ بِهِم بَدْوًا قَدْ انْتَشَرُواخَلْفَ الغَوَانِي وَفِي الحَانَاتِ قَدْ شَطَحُوا
فَقُلْتُ: أَخْفِفْ بِهِم طَيْرًا لِكُلِّ خَنَاأَمَّا لِعِزٍّ فَمَا عَنْ خَيْمَةٍ بَرَحُوا
فَقَالَ: مِصْر .. ؟ فَقُلْتُ: الدَّهْرُ عَانَدَهَافَلَيْسَ فِي أَرْضِهَا أُنْسٌ وَلاَ مَرَحُ
قَالَ: “الخَصِيبُ؟ فَقُلْتُ: الجَدْبُ خُصَّ بِهِفَلَيْسَ فِي كَفِّهِ مَنٌ وَلاَ مِنَحُ
وَلاَ فَسَادٌ بِهَا .. قَدْ بَاتَ يُزْعِجُهُوَلاَ يُبَالِي بِمَا أَعْوَانُهُ اجْتَرَحُوا
وَلاَ اشْتِعَالُ قِطَارِ المَوْت أَيْقَظَهُوَأَعْظُمُ النَّاس فِي التَّنُّورِ تَنْقَدِحُ
فَقَالَ: أَعْظِمْ بِهِ .. كَالثَّلْجِ عَاطِفَةلَمْ يُثْنِهِ شَعْبُهُ فِي النَّارِ يَلْتَفِحُ
فَقُلْتُ: لَمْ يَثْنِهِ نِيلٌ وَلاَ هَرَمٌوَمِصْر فِي سُوقِهِ لِلبَيْعِ تَنْطَرِحُ)()

يمزج الشاعر بين صوته وصوت أبي نواس، من خلال استخدام بنية الحوار قلت/قال، بما يضعهما معًا في مقابلة بين الماضي يمثله صوت أبي نواس، والحاضر، يمثله صوت (أحمد شلبي).

كما جاءت الشخصية إطارًا كليًّا للقصيدة ومعادِلًا موضوعيًّا لتجربة الشاعر، وقد وُفق الشاعر في اختيار قناع “أبي نواس” رافدًا تراثيًا وجعله صوتًا لإدانة الأوضاع السياسية والاجتماعية في الوطن العربي، لما عرف عنه من رحلاته إلي الأقطار العربية، ومنها مصر، وبغداد، والتي مات بها، ومن هنا كان رصد “أحمد شلبي” ما يجري في تلك العواصم العربية عن طريق شخصية “أبي نواس”؛ معتمدًا على التحوير والتغيير في الأحداث الرئيسة وبناء أحداث أخرى تستدعي الماضي في ثوب الحاضر، وتتضح في أبيات هذه القصيدة كثير من مقومات هذا العصر وأحداثه ووقائعه.

فتومئ الكناية، في البيت الرابع إلى سفاهة العرب الذين غرقوا في الملذات في حين خلت منهم ميادين العزة وتقاعسوا عنها. كما تتضح المفارقة اللاذعة في اختيار الشاعر لكلمة “الأشاوس”، والتي تتضح من جواب “أحمد شلبي” عندما سأله “أبو نواس” عنهم. فمَن عُرفوا بالأنفة والكبر، أسكتهم الرعب، فزايلهم ما عُرفوا به من الجرأة والشجاعة، وأسلموا أنفسهم للصمت والخنا والرعب والوهن.

كما أن البيت السادس، بجانب ما وشيه ـ بلاغيا ـ من جناس ناقص بين كلمتي “الخصيب وخص”، و”من ومنح”، ومقابلة بين الكلمة الأولى منهما وكلمة “الجدب”، فإنه يحمل مفارقة لاذعة تظهرها هذه الصور الأدبية؛ فالشاعر لا يعني “الخصيب” والذي كان واليا على مصر من قبل أحد الخلفاء من بني العباس.

فثمة فارق بين “خصيب” سار في أهل مصر أحسن سيرة، واشتهر بالكرم والإيثار، وكان أقرب الخلفاء وسواهم يقصدونه، فيُجزل العطاء لهم، ويعودون إلى بغداد شاكرين لما أولاهم. وبين “خصيب” خص عهده بالجدب وتميز هو بالبخل والأثرة. فالشاعر إنما يسقط نقيض صفات الأول على الثاني، ساعده في ذلك ما اعتمد عليه من مقابلة وإسقاط كحيلة فنية.

وفي إشارة الشاعر في البيت الأخير إلى النيل والهرم؛ بما يمثله الأول من مستودع للحياة، ويمثله الثاني من مستودع كبير للزمان وللأحداث وللتاريخ، وفي تشخيصهما وإسناد الفعل إليهما، ما يجعلهما رمزًا ومعادِلاً موضوعيًّا للحياة وللقوة والتماسك ويكون ضياعهما رمزًا للفناء وللتصدع والانهيار؛ بما يهبه النيل لمصر من صور الحياة المختلفة، وما يمثله الهرم من سمات القوة والصلابة والثبات.

وقد نشأت درامية القناع من انحسار السرد داخل النص، عن شخصيتين يمثلان وجهين متقابلين. ما أعطى للشخصية المعاصرة القدرة على المحاورة مع الآخر/القناع، واستنطاقه بما يسقط الحاجز بين الواقع والتراث، جاعلًا من نصه بؤرة للتحولات التاريخية، كاشفًا عن الصراع الذي يتخلل الواقع، عارضًا سلبيات الواقع من خلال تناقضات تعكس صورة الماضي، إذ هو في الحقيقة يتحدث عن الحاضر، رامزًا للحكام المعاصرين بأسلافهم السابقين.

ولأن القصيدة تحكي عن طريق المفارقة صورًا من الفخر لدى أبي نواس، اندثرت لدى الشاعر المعاصر، مما أخرجها مخرج الحنين والتحسر على الماضي. وليس أقدر على استيعاب ذلك من بحر البسيط، والذي نسج الشاعر عليه قصيدته، وأدار عبر وزنه التام محاورته، والتي انتهى كل بيت فيها بروي الحاء بصوته المهموس، محدثًا فحيحًا زادت منه حركة الضم مشعرة بالفخر، والذي تعددت دلالاته في القصيدة حتى أمسى الفخر عنصرًا مراوغًا، لا نكاد نقف له على ملامح ثابتة، إذ تباين الفخر عند أبي نواس، عنه عند أحمد شلبي، والتي انعكست دلالاته على الواقع المعاصر بسلبياته وانكساراته، فبات ـ الفخر ـ منقطع الصلة عن الماضي بكل ما فيه من عز وشرف وفخار.

ففي قصيدة “فارس بغداد” على وزن بحر البسيط()، للشاعر (محمد التِّهامي)، يقول:

(وَ”القَادِسِيَّةُ”() يَا بَغْدَادُ قَائِمَةٌوَفِيكِ مِنْهَا سَرادِيبٌ وَأَنْفَاقُ
وَ”ابْنُ الْوَلِيدِ”() وَ”سَعْدٌ”() فِى مَضَارِبِنَاتَشُدُّنَا فِى الْتِحَامِ الْمَجْدِ أَعْرَاقُ
وَكَفُّنا كَفُّنا فِي الرَّوْعِ وَاحِدةٌسِيَّانَ لِلسَّيْفِ أَوْ لِلنَّارِ إِطْلَاقُ
وَحِكْمةُ اللهِ فِيهَا أَنْ يُؤَازِرَهَاوَنَصْرُها لِرِضاءِ اللهِ مِصْدَاقُ
كَأَنَّ فِي صَفِّها شُدَّتْ مَلَائِكَةٌمِنْهَا عَلَى الْكَوْنِ إِرْعادٌ وَإِبْرَاقُ
فَزُلْزِلَتْ بالعُداةِ الأرضُ قَاطِبَةًمِنْ شَرِّها ما رُوِّعوا فيها ومَا ذَاقُوا
واسْتَنْصَرُوا بِبُغَاثٍ، كَيْفَ يَنْفَعُهُمبُغَاثُهُم وَجَنَاحُ النِّسْر خَفَّاقُ؟
هُمْ جَامِعُونَ لِأَعْشَابٍ بِمَا جَمَعُواوَغَايَةُ العُشْبِ تَحْتَ النَّارِ إِحْرَاقُ)()

تنبع القصيدة من المكان بغداد وتصب في المكان بغداد، وتتكون بنية العنوان من متضايفين، أولاهما كلمة (فارِس)، وهي اسم فاعل تدل على راكب الفرس، والتي أضيفت إلى ثانيهما، وهي (بغداد)، عاصمة الخلافة العباسية في صدر الإسلام. وهي اليوم عاصمة العراق. فالعنوان يحمل بذور اللقاء الحضاري على ضفاف الأنهار وفي ظل العروبة والإسلام. كما يحمل في بنيته التركيبية قصة سردية، تستدعي عناصرها من عبق التاريخ، فالقادسية وابن الوليد وسعد إنما هي ملحمة من ملاحم الفتح والفروسية والجهاد.

وقد ألقى الشاعر قصيدته بمهرجان المربد السابع ببغداد سنة ست وثمانين وتسعمائة وألف. يبارك انتصارات شعبها التي أعادت إلى الأذهان الانتصارات الإسلامية الأولى. فيبدأ الاستهلال بذكر موقعة القادسية، سنة ست عشرة للهجرة، بما تمثله من بُعد زماني يتمثل في الحدث التاريخي، وبُعد مكاني يتمثل في رقعة من أرض العرب، تمت إعادتها. وهي من أعظم وقائع المسلمين، التي انهزم فيها الفرس وزالت دولتهم.

فحين كتب المسلمون إِلَى سيدنا “عُمَر بْن الخطاب” رضي اللَّه عنه يعلمونه كثرة من تجمع لهم من أهل فارس ويسألونه المدد فوجه سَعْد بْن أَبِي وقاص، وقال: أنه رجل شجاع رام. وفى «القادسية» سنة ست عشرة للهجرة، دارت رحى الحرب بين الفريقين، واستمرت ثلاثة أيام ونصف اليوم الرابع، وأسفرت عن نصر حاسم للمسلمين، وهزيمة منكرة للفرس، وقتل قائدهم «رستم»، وتشتيت من نجا منهم من القتل. وتُعد معركة «القادسية» من المعارك الفاصلة في التاريخ؛ لأنها حسمت أمر «العراق» العربي نهائيا، وأخرجته من السيطرة الفارسية التي دامت قرونًا، وأعادته إلى أهله العرب المسلمين().

ونكاد نرى عبق القدم في البيت الأول، والذي احتوى ـ البيت الشعري ـ بعدِّه مكانًا، جملة من الألفاظ والكلمات، والتي خطت ملامح المكان. كما يستدعي في البيت الثاني فارسين عظيمين من أمراء الحرب؛ أولهما: سيدنا “خالد بن الوليد”، رضي الله عنه، وثانيهما سيدنا “سعد بن أبي وقاص”، رضي الله عنه. ينسب للأول منهما فتح سواد العراق في خلافة سيدنا “أبي بكر الصديق” رضي الله عنه، وللثاني منهما فتح القادسية.

فقد برزت في القصيدة شخصية المكان الثرية بالأحداث، من خلال ذكر القادسية، واستدعاء الشخصيات الفاعلة في مجريات الأحداث وتشخيص بغداد والتحاور معها. فبغداد عند شعرائنا العرب تحتل مكانة خاصة وتستأثر باهتمام عظيم، فهي تذكرهم بالمجد العربي في أزهي عصوره أيام العباسيين. ويتناص البيت السابع مع المثل العربي “إنّ البُغاثَ بأرضنا يستنسر”()، والمثل في أصل وضعه يضرب للضعيف يصير قويا، وللذليل يعزّ بعد الذل. واستدعاء الشاعر لهذا المثل من طريق المفارِقة، في إبراز الفارق بين استنصارهم بالبغاث، ومعهم النسر الخفاق. مصورًا بتلك الإشارة للمثل قوةَ جيوش المسلمين وضعف أعدائهم.

وقد اجتمعت في هذه القصيدة من أسباب القوة في موسيقاها، والتي ساقها الشاعر على وزن بحر البسيط. فهذه القصيدة فيها عنف شديد في سرد انتصار المسلمين في القادسية، برز في حشد الصور الطبيعية في عنفوانها، نحو إرعاد وإبراق، وتحت النار إحراق. والجمع بين الأضداد نحو بغاث وجناح النسر. والإكثار من صيغ الجموع، نحو سراديب وأنفاق. وقد آزر من ذلك روي القاف، وهي صوت شديد، يخرج من أقصى الحلق بارتفاع أقصى اللسان إلى الحنك العلوي، محدثًا استعلاءً كللته حركة الضم والتي تتوج الروي موحية بالقوة والنصر. ويأتي القطع في الضرب ليشير إلى الوقوف في منتصف الطريق بين ماض مجيد، وحاضر مخزٍ، وبينهما عزم وأمل وفارس نود لو وثب من رقدته وثار.

د. سعيد محمد المنزلاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *