عدت إلى مدينة الصقيع، المدينة التي جعلت مني أنثى جامدة أمام كل المواقف، عدت إليها وفي شوارعها تعاد الذكرى وطيفها العابر بالشوق الحارق بالقبل والعناق داخل الوهم، كانت الأوهام تعانقني في كل الزقاق وكأنها حقيقة مطلقة للماضي والحاضر الذي أعدم غربتي في عنفوانها، وقبل الاشتياق ولوعته التي قرأت عنها في روايات الهجر والغربة عدت إلى السطور مغتربة واقفة على طابور الإلهام، أنتظر تذكرة عبور إلى كل لقاءات الراكنة في الزقاق والدار المهجورة مذ تآكل أرواحنا لا جدران.
رتبنا حقائب العودة الفارغة من الشوق وإلى المسقط عدنا نروي قصصاً منسية للانتماء وجدلية التناقض بين الحب والكره، وذات انفصام أحببتها حد الهيام وفي هُنَيهة أعلنت عليها الكره، كان الأمر مرهقاً يتطلب الاعتذار لكل الأشياء الجميلة في مدينة الشهباء.
وصلنا بعد تعب السنين المُرهنة على التجاوزات، كان بانتظارنا فنجان شاي على هوامش السمر في ليال الصقيع، سكون تلك الليال كان فياضاً بالذكريات.
وتحكي الجدة عن الزمن الجميل وأيام الطرب في حضرة “الحرمة” كنا حرائر، اللواتي ينسجن خيوط ألمهن ويخيطن جراحهن بصمت بديع حتى يكتبن في تاريخ الصابرات، كنا حرائر في الصمود أمام كل المقارنات والحلول المتعددة والبدائل المطروحة بعد كل مخالفة، كانت ذاكرة العادات والتقاليد حية تقتص منهن، كلمة عيب وعار حكم قاطع في حقهن.
كان زمنا جميلا صارماً في التقييد ملتزماً بنواميسه إلا أنّ تمردنا كان جرماً مشهودا في حقه، تمردنا ماكان تمرداً يحسب عليهم إنما افتراء في حقه يحسب علينا.
كانت أسطوانته مبهرة كل مواويلها خالدة تردد على طول الطرقات المكتظة بالنظرات الفاحصة وضجيج الهمز واللمز، كانت تلك المواويل بحسنها وسخطها وبكل حالاتها راسخة فينا.
عدت إلى دار العيلة أرمم شقوق الهجر فيما مضى من الذاكرة المهجورة من الأشخاص، كنت واقفة على صورنا القديمة قبل التجاعيد وفعلة الزمن في دس ملامحها حينها تركت كل التفاصيل للتغافل …
في أول يوم بعد العودة كنت معزومة في عرس بنت الجارة، رقصت النسوة رقصة الصف وتمايلن على الطبل بشعر ملحون يمجد سيدهم الزاهد، وبعد الصحو من جذبتهم الروحية ما كان للمرأة العرجاء إلا الحيرة عن فراغ يديا من عريسٍ ( رحتي وجيتي فارغة اليدين)، وبعد نصف فرحة أطلقت زغرودة الترحيب بالعمر العابر في هذه المدينة ويا مرحباً بالكلام وبالشوارع المهترئة كأحلامنا المُعلقة في أدراج هذا الوطن، وعلى سيرة الحلم هنا الأعراف تُحرم الفن إلا رقصة الدراويش ونفخ في المزامير في حلقة دائرية تجمع بين اختلاط المواسم في يوم حار، ويغني الدوريش للأولياء الله الصالحين ويرقصون رقصاً خرافياً، أما الأعيان ذوو القمصان البيض يصفقون وجيبوبهم كذلك تصفق مالاً من دريهمات الزوار، الطواف على قبة الزاهد الذي غادرنا مذ قرن، وعلى حسب أساطير الأولين بركة للأرض والسماء مايحل من خير وشر……
حلمت أنا أكون فنانة في شيءٍ ما، زرت كل الحدائق المكشوفة على رياح الإهمال أزهارها الذابلة كانت بين دفتي دفاتري التى تلاشى حبرها وبقيت الكلمات فيها آثارا …كانت لوحة فنية تجردية من الواقع، وعلى كل تلك الآثار كتبت للتاريخ والانتماء وما يروى بينهما، ومن الدفاتر قفزت قفزة الزمن الجميل للركح وتراجيديا النهايات القاتلة لكل قصص الأمل والحب والانتصار….. وسدل الستار على كل أحلامنا وبقينا نعزف موسيقى حزينة لسادة التهميش ولكل من وقفوا على عتبة أرواحنا بأفواههم الساخطة… وهكذا كنت فنانة في شيئا ما، ربما في العبثية أو الحماسة عندما ارتديت قميص فريق المدينة وأصابع اتهام تُشار لي أنني نحس كل الخسارات المتتالية، حينها وفرت الكثير من الصمت، الابتسامات الصفراء والنظرات الخجولة لبضع الأيام القادمة في هذه المدينة….
الشاعرة خولة ريزوقة