أَقِفُ في المُنتصف تماماً ، الرؤية مُشوشة تُغطيها طَيّات الغُبار إثَر القَصف ، طنينٌ في الأذنين يُرهِقُ حتّى الأصمّ ، أنظُرُ يَميني فأرى قِطع ، أشلاء بشرية ، دليل على أن هذا المكان سُكِنَ من قَبل بالبشر و لكن شيء ما حدث لهم ! ارتديتُ خوذتي جيداً و حملتُ المايكروفون و بدأت أركضُ دونَ وِجهة، وصلتُ إلى المشفى لا أدري كيف ، لكن !! ما الذي حدث هُنا ؟! بربِّ الخَلق !! أَهذهِ هيَ الجحيم؟ أَهذه جَهنَّم ؟! مَشفى دُونَ مَلامح المشفيات كأنما رُسمت مَلامِحُها بالدم، أطباء يركضون هُنا وهُناك، و أكوام الناس المُصابة، أطفال و نساء و شيوخ و رجال، كبار وصغار، أطفال رُضّع يبكون، عَجِزَ لِساني عن وَصف هَول المنظر، أنظر حولي و أقول : يا رب رُحماك !!
نظرتُ يَمنةً فرأيت رجلاً يُعانِق حفيدته الشهيدة و يقول : هذه روح الرّوح !! طِفلٌ يجثي فوق جسد والدته الذي فَقَدَ مَلامح الإنسانية و يبكيها !! أُم تَصِف ابنها لعلّ شخص ما رآه فتقول: ابني يوسف ، عُمره سبع سنين ، شعره كيرلي أبيضاني وحلو ، لم تَقُل غيرَ ذلك حيث أنها وجدت ابنها بين جثث الشهداء لكن من فِرط التشوّه لم تُعرَف مَلامِحهُ !! طِفلٌ لم يتجاوز الخمس سنوات واقفاً يرتَجِفُ وَحده ، اجتمع الأطباء حوله يسألوه ماذا حصل؟ و كيفَ يُجيب ؟ فلسانُه لا يَقوى على الكلام و رجلاه ما عادت تحملانه ثم قال كَمن ابتلعَ قلباً فجأة : كنت نايم و فجأة صار القصف ، ثم بكى ، و بكيتُ أنا مَعهُ ، احتضنه الطبيب وحاول أن يُطمئن قلبه و لكن كيفَ تُفسَّر هكذا صدمة لطفل في عُمره؟!! قرصتُ نفسي لأتأكد أن هذا ليسَ حُلم و أني أعيشُ واقِعاً فما وَجَدتُ إلا صوتُ غارات جويّة قريبُ كأنه مُندلع من بُركان قلبي و النّاس تَهرَع تَحمل أولادها و تَركض و لكن إلى أين ؟! طوَّقَ الحِزام الناري المشفى و استُشهِد المئات و الآلاف ، استُشهِدَ جميع مَن في الخارج و النازِحون في الخيام حول المشفى أصبحوا كُتَلَ لَحمٍ مُتناثِرة ! نعم قَصَفوا المشافي و البيوت و المدارس و الجامعات و المساجد والكنائس ، قتلوا الطفولة و الأحلام والحُب و العائلة ، قتلوا كُل مُسببات الحياة!!!
هَرولتُ مُسرعَاً و قبضتُ حفنةً من تُراب وَطني لأروي عَطَش فُؤادي لنسمة هواء و حَفنة تُراب من غزّة ، و نظرتُ إلى يدي فوجدتُها حمراء مَعجونة بالدم الأحمر الطّاهر ، نَظرتُ حولي نظرةً خاطِفة ، لا أرى سوى دُخان و غُبار و أُناس يَركضون مُسرعين إلى المشافي و أطفال ونساء يبكون جوعاً و رجال يأنّونَ قَهراً على حالهم و عائلاتهم و على ما فقدوه ، مُتَيَّمون بِحُبِّ وطن حنون ، يأبون تَركه و يفدونَهُ بكلّ ما يَملِكون فالرّوح و الجسد و الوَلد و البيوت و كل ما لديهم فِدا تُراب الوطن .
ثم استعدتُ ما بقيَ فيّ من طاقة و نَهضتُ و قُلت :
أعزائي المُشاهدين ، اليوم لستُ بقادرٍ على الترحيبِ بِكم كالعادة ، فكما تَرَونَ وَجهي مُتعَبٌ و الليلُ تحت عُيوني أَعلَنَ ظهوره ، قسمَاتُ وَجهي توحي بالتّعب فاعذروني ، لستُ كما اعتدتم عليّ و لكن الظروف حكمت هكذا … ، و كَما تَسمَعون صوتي مُتَحشرِج مليءٌ بالنحيب ، يكادُ يغرقُ في بَحر من الدُموع ، ترتجفُ أحبالي الصوتية مُعلِنة استسلامها عن قدرتها على التمثيل ، فيَخرُجُ صوتي كَ بُكاء الأطفال ، بَحّة طفولية تَخرُج لتُوهم المُستَمِع بأن هذا ليس إلا صوت بريء ضعيف ، و كَما تَرونَ يداي ترتجف على الرغم من أني لا أشعر بالبرد ، اعزائي المشاهدين :
أزفُّ لكم اليوم خبرَ استشهاد ما يُقارب الثلاثون ألفَ مُواطن فلسطيني في مدينة غزّة، ثلاثون ألف روحٍ طاهرة رحلَت لجوارِ رَبها ، ثلاثونَ ألفَ قصة و ثلاثون ألف حياة ، ثلاثونَ ألفَ جُزءٍ سقطَت من رُوحي ، على يد الجبناء عُراةَ الإنسانية ، متجردون من كل شيء عدا الوحشية والظلم ، على يدان مُلَطّختانِ بالدّم الفاسد , على يد مَن زوالِهم قريب بإذن المولى ، فالحُب الذي قتلوه سيولَدُ من جديد ، و الطفولة التي أعدموها سينشأ مكانها جيلٌ شديد البأس ، الحيوات التي أُخِذت سيُعلَنُ عن إعادتها للحياة و لكن في أجسادٍ مُختلفة ، و كما قيل : كُلُّ لَيمونَةٍ سَتُنجِبُ طِفلاً و محال أن ينتهي الليمون ..
و إلى هُنا سيداتي .. سادتي تنتهي نشرتُنا الإخبارية على أمل اللقاء القادم يكون بث خبر تحرير فلسطين كاملة و دُمتُم بخير و تُصبحونَ على وَطَنٍ مُحرر فلما انتهي البث و نَظَرت إلى وجوه الطاقم وجدتهم جميعهم غارقين في الدموع و يبكون وَطن لطالما تمنوه مُحرراً .
الكاتبة مها غالب مطاوع