أوقفه الحاجز، كانوا مستنفرين وحانقين، وبعد أن أتمّوا حفلة الذّل والتفتيش والتنبيش عن الهواء، قالوا لامرأته أن تخلع كلّ ملابسها، فثمة وطنٌ سينفجر في بطنها، وارتفع الصراخ الوحشيّ المجنون، وانغلق العقل – سيعرّونها غـَصْباً- وبعد دقائق كان دمه يشق جداول نحو الشجر اليابس على حافة المجنزرات، وامرأة تستلقي دون ثياب!
تتدلى من السماء مربوطاً بأخمص قدميك، وتحتك صحنُ جمرٍ بحجم المدينة، يتوهّج! تجفّ، تحترق، تتفحّم، تترمّد، تذروك الرياح.. غير أنكَ تشكّل أثراً فوق الجمر!
لم تتبدل عربات النحاس كثيراً، ولا الخيول أو الجنود، فلقد كانوا ينزلون بسرعة خاطفة إلى الأسواق، يبعثرون الدكك الخشبية الصغيرة، والطاولات الواطئة، فتقع عنها مِزَق الخضار والباقات وحبّات البيض والفاكهة، وكانت النساء، بثياب الحقول، يرجعن باكيات دون قطع روميّة نقدية قليلة. ومنذ سبعة وخمسين، والجنود أنفسهم يهبطون بهراواتهم،إلى البلدة القديمة في القدس، فيركلون البسطات بالبساطير، ويدعسون على إضمامات البصل الأخضر والجرجير، ويتدحرج التين والبرقوق، وتعود النساء اللاطمات دون شواقل إلى البيوت المنذورة للهدم والتطـّرف.. والزوال.
يقسّم إيريك فروم السلوك العدواني إلى ثلاثة أنواع: عنف للدفاع عن النفس، وعنف لإكمال الجريمة (جريمة كالسرقة والاغتصاب)، وعنف للاستمتاع بالعنف، وهذا هو العنف المَرَضيّ الاحتلالي.
يدهمُ الجنودُ حوش البيت الرّيفي، ويتدفّقون، ويقتحمون الغُرف والمطبخ والحمّامات والمخزن، ولا أحد!
كانت المرأة مع ابنتها الطفلة، وأكدت لهم أنه لم يأتِ إلى البيت منذ شهور، اذهبوا وابحثوا عنه.
لمعت الفكرة في ذهن الضابط؛ أحضَرَ الفتاة، ووضع باطن يديها على زهرات الأسلاك الشائكة، واحتضنها بكفيه، وراح يعصر على الأصابع الصغيرة، والأرضُ تصرخ.. تصرخ.. تصرخ، والعندمُ ينقط.. ينقط.. ينقط.
وما زال الحنّاءُ الناريُّ على الأسلاك.
يُروى أنَّ رجلاً عربيا كان يشتري صحيفةً كل يوم، ثم ما يكاد ينظر في الصفحة الأولى حتى يرميها على طول ذراعه، فسألوه: لماذا تفعل ذلك؟ فأجاب: يكفيني منها قراءة الوفيّات! فقالوا له، وهم في دهشةٍ من أمرهم: لكن الوفيّات لا تُنشر في الصفحة الأولى! فأجاب: مَنْ أنتظرُ موتَه سينشرون خبَره على الصفحة الأولى!
من أين لِ(سالومي) قدرة الرقص مع الموت؟ –
هل الثأر والأنتقام حقّ لطرف واحد أم للطرفين؟ –
لماذا لا تكتفي الكلاب بالنباح، وتصرّ على عضّ اللحم الحيّ؟ –
متى اختلف الملح مع السكّر؟ –
كيف أعرف أنني نائم؟ –
مَنْ أمرَ النايَ ليذبَحني؟ –
أَمَا سئمنا الفشل؟ –
لماذا يذهبون الى الحرب بعد أن وقّعوا على السلام؟ –
مَنْ جعل النعمةَ تتخفّى؟ –
كيف يستطيع الجَمال أن يستحوذ على الأعمى ؟ –
قد يصافح أحدُ السياسيين قاتلَ أطفال شعبه!ولكن لماذا يعانقه؟
عندما ابتنى ذلك النزل في (رام الله)،أراد تأثيثه والانتقال إليه، فأضاء به وبأهله. ونصَحوه أن يعلـّق لوحةً على فراغ الجدار، فتابع بائعي الأنتيكا والأثاث المستعمل القديم الباذخ، وأعجبته لوحة “الفهد القابض بأنيابه على عنق الغزال”، فعلّقها وسلـّط عليها الإضاءة المناسبة، وبعد ليالٍ كان الدرج وأبواب الغرف تسمع خطوات فراء مَرِن وخفيف، وثمة مَنْ يمرق ويهفّ الهواء كأطفال العاصفة.
صار المحتلُّ المغتصِب يجبرنا على البحث عن إنسانيته، أو نقاط التقاء معه، وإلى جلد ذواتنا، ومحاكمة ثقافتنا، ولعن أجدادنا، وإلى البحث عن أجداد آخرين، والعبث والجدوى..
إنها أوسلو يا صديقي !
الجواميس عندما تهرم تفقد قرونها، وتسير بتهدّل وتعب! على بعضها آثار وندوب معاركها فيما بينها، وعلى بعضها ملامح الرغَد الذي كان. لكنني أحبّ من الجواميس التي ظلّ على جلودها رائحة الضواري والكواسر التي طمعت في لحومها فرفضت!
الوصولُ إلى البيتِ والنومُ والضحكُ والصمتُ والصلواتُ حرامٌ حرام.
والطفلُ يلهو بعودته، أو تأخَّر ثانيةً في الطريق، سيخرجُ والدهُ باحثاً عنه، إنْ كانَ بين الجنودِ وبين الحُطام.
وحين أغيب إلى أوّل الليلِ في الأصدقاءِ، ترنّ الأماكنُ حتى أعودَ إلى قلقٍ في الظلام. ولكنني في المدائن أخرجُ، أسهرُ آكُلُ أشربُ أضحكُ أسمعُ.. ثم أعودُ إلى غرفتي، غير أني أُحدّث أهلي، وأسأل عن كل شيءٍ، وأنَّ الجميعَ بخيرٍ، لعلّي إذا نمتُ ليلاً.. أنام.
ألإثارة التي غمرتنا .. كانت كافية لأنْ يجعلها الزلزالُ ذريعتَه في الأرض.
وأفزعُ، فأراني في كابوس اليقظة، وقد جفّ حلقي، وأحمد الله أنني هنا في رام الله، وأن الدوريات التي تولول بعيدة، وأن هذا الرصاص الكثيف بعيد أيضاً!
لقد اقتحموا المدينة كالعادة! ومرّوا من تحت شبابيك المسؤولين كالعادة! وقتلوا واعتقلوا واستباحوا كالعادة!
وتعود الحياة واللغة نفسها كالعادة! ونلعن اللا شيء..كالعادة!
.. وأشتاق إلى القدس كغير العادة.
للجنرال قرنا ثورٍ صلب، ينطح بهما ظهر الرجل السبع المجروح، فتتناثر المهج وقطع النجيع من ظهره، فتصبح البسيطة سجادة ورد قانٍ، ويواصل الثور دكّاته المالعة، فيتوقف الرجل، ويصعد بظهره، ويعبّ هواء الدنيا، ويرفع عصاه بيمينه، ويدقـّها في الأرض غضباً وإعلاناً للخلاص، فتنغرز في التراب وتخضرّ، وتتفصّد براعم، وتكبر، وتهيج، وتصبح شجرة كونية، وتتوالد…
حتى تغطي الغابةُ كل الأشياء.
الموت مرض، مثل أي مرض يمكن علاجه! لكنَّ أحداً لم يعمل على إيجاد ذلك الترياق، لأن الجميع أدرك من البداية أنه مرضٌ ضروريٌّ لمواصلة الحياة، إلاّ المبدعين والشعراء، فلقد أرادوا كسر القاعدة والخروج على الإجماع، لكنهم ليسوا علماء مختبرات ليجدوا ذلك الدواء، إنهم واهمون جميلون، وحالمون.. حتى الفناء.
تدخل الزنزانة خائفاً مرتعداً مرتبكاً، تحاول أن تجمع ذاتك، وتندس في العتمة زائغاً، تكاد تتكوم انهياراً، وشيئاً فشيئاً تتّضح الجدران، فترى كلماتٍ حَفَرها المعتقلون بأظفارهم، أو كتبوها بدمائهم، تتملاها، وتقرأها ألف مرّة، وتراها ملء العينين تطير وتدخل قلبك، وتنطبع هناك في سويداء الوجدان، فتتماسك وتنهض مثل حصان أسطوري، وتدق برمانةِ كفِّك كلَّ الأبواب الصلدة، وتنفر دماؤك، وتخطّ بإصبعك المغموسِ النهايةَ المُتَوقَّعة.
..سينجو القليلون، ليبدأ المُغنّي بكائيّته من لغة زائغة، مجنونة الحنين، دائخة، تبحث عمَّن بقي من الأشياء والوجوه، بعد هذا الدمار المريع.
سيقف على تلّة في البعيد، لعلّ أرضه تتراءى له، ليقول: كان كلامي العذب مخبّأً في عينيك، ولطالما قلتِ لي أن أصيح باسمك عندما أشتاقكِ، وها أنذا أصيحُ فلا تأتين!
كنتِ تشعّين بجسمكِ تحت غلالات الضباب، وها أنتِ تنغلقين على سواد تامّ.
لقد أفقدوك براءتك وعفّتكِ، وأطبق الملحُ على شفتيكِ.
لقد خرج أهلك مفزوعين، وكانوا ينظرون إلى الوراء، ودمهم يتهاطل من أجسامهم، ودموعهم ملء وجوههم، وكانت الأشجار تنخلع عن عَرْشها الأبديّ، وتجري نحوهم لتعانقهم العناق الأخير، وكانت حجارة البيوت المهدومة تتطاير باتجاههم لتقبّل رؤوسهم وأكتافهم، وتودّعهم، وتبكي وحدتها مع الجثث المترامية والصبّار اليتيم.
وظلّ السراج يرتعش في البيوت التي انذبحت، وبقي الفتيل يتغذّى من الدم الذي شخبت به الأبدان والجدران، فعبّأ حوض السراج الصغير، وهذا ما تراه يومض من بعيد في الظلام.
وليس لك الآن، أيّها المُغنّي إلّا أن تحرس السنبلة التي حملها ذلك الفتى اللاجئ، بعد أن استلّها من حقله، قبل أن يحرقوه، ووضعها في جيبه. خُذ حبّات السنبلة وابْذرْها في كل الحقول المحيطة بالأرض، لتمتلئ الحدود بالموج الأشقر.
الشاعر المتوكل طه