قراء القرآن الكريم في مصر ضرورة معرفية لا ترف فني

(أعتمد في هذا المقال على بعض ما تحدثت عنه في كتابي “نظرات في التاريخ والمجتمع” وفي كتابي “سيرتي”)

تمهيد


مع “اقرأ” بدأ الوحي وبدأ هذا الدين الحنيف، وكانت البعثة والسيرة النبوية من مكة إلى المدينة. ومع مجريات الدعوة ونشر الإسلام كانت آيات الله تتنزَّل على قلب رسول الله صلى الله عليه وسلم بوحي من الله ينزل بها من السماء جبريل عليه السلام، لتضع شرعًا ومنهاجًا وتذكر أحسن القصص بأحوال الأمم السابقة وأخبار الأنبياء والصالحين، ولترقق قلبًا وتبشر ذاكرًا وتنذر معاندًا؛ فكانت الآيات دستورَ حياةٍ لأمة وشفاءً لصدور المؤمنين.


ولأن كتاب الله القرآن الكريم هو المصدر الأول للشريعة السمحاء فقد تلقاه الصحابة الكرام، ثم التابعون، ثم تابعو التابعين، ثم من جاء بعدهم بالحفظ والفهم والتفسير، فجمعوا بين العلم به والعمل بأحكامه. ولأن تلاوة القرآن عبادة فقد دأب المسلمون منذ عهد الصحابة إلى يوم الناس هذا على تعلمه وحفظه وتدبره وإتقان تلاوته بأحكام التجويد؛ وذلك بإعطاء حروف القرآن حقها بالترقيق والتفخيم والإظهار والإدغام والإقلاب والقلقلة والروم والإشمام والفتح والإمالة والوصل والوقف والسكت، وبمد مدوده بمقادير مضبوطة، وبمراعاة الابتداء والوقف فيه، وحتى في عدّ الآي ومواضع فواصله، إلى إعرابه وبيان غريبه، إلى تأمل الإعجاز فيه.


وعلى الإجمال نشأت علوم القرآن الكريم وتفرعت كثيرًا، وتوفر لها القراء والمحدِّثون والمفسِّرون والفقهاء واللغويون والنحاة والبلاغيون، كلٌّ يأخذ من جانب، على أن كل علم مرتبط بالآخر.
وما يهمنا الآن ذكر جهود علماء الحديث النبوي في التدقيق في أسانيد كل ما يُروى عن النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم مما قرأ من آيات ومما تحدث به، فتخصص بعض العلماء بأسانيد القراءات التي قرأ بها النبي وصحبه وانتقلت منهم إلى من جاء بعدهم. ومن أجل تحري الدقة افترضوا شروط (1) تواتر القراءة، و(2) موافقتها لمصحف عثمان رضي الله عنه، و(3) موافقتها للغة من لغات العرب السليمة المعتمدة. وتستمر الجهود في عمليات بحث وتحقيقٍ بأسلوب علمي لا نظير له في تاريخ الأمم، فوصلوا إلى تحديد القراءات المتواترة بالأسانيد الكثيرة.


كان ابن مجاهد (ت 324هـ) أول من حدد سبع قراءات في كتابه السبعة في القراءات، فبدأ بمدينة رسول الله واختار منها الإمام نافعًا، ومن مكة المكرمة ابن كثير، ومن البصرة أبا عمرو بن العلاء، ومن الشام ابن عامر، ومن الكوفة عاصم بن أبي النجود وخلف بن حمزة الزيات والكسائي النحوي، وذلك حسب الأمصار التي أرسل عثمان رضي الله عنه المصاحف وقراء الصحابة ليعلموا أهلها القرآن، ثم اختار ابن مجاهد راويين اثنين فقط لكل واحد من القراء السبعة من تلاميذهم أو تلاميذ تلاميذهم، وقاس اختياراته بمقياس العلم والعدلية والقبول والإجماع.


وقد لقي هذا التحديد قبولًا وموافقة من علماء عصر ابن مجاهد ومن بعدهم كالإمام أبي عمرو الداني (ت 444هـ). ثم إننا نقف عند اختيار الأئمة الأربعة للقراءة والرواية، فنجد مثلًا الإمام أحمد بن حنبل وله طريق في رواية شعبة عن عاصم. واستمر المسلمون في الحرص على القراءات السبع بروايتين لكل قارئ حتى أرسى الإمام الشاطبي (ت 590هـ) هذا العلم في منظومته (حرز الأماني ووجه التهاني) المشهورة بالشاطبية.


وبقي المسلمون على ذلك حتى جاء الإمام ابن الجزري (ت 833هـ) فكان من أكثر علماء الأمة عناية بعلم القراءات وأكثرهم تأثيرًا، ومازالت كتبه (الدرة المضية) و(النشر) و(طيبة النشر) عُدّةِ كل من يجتهد للحصول على الإجازات في القراءات العشر، فلا غنى لطالب علم القراءات عنها وعن منظومة الشاطبي.
العصر الحديث
ما ذكرته آنفًا مقدمة سريعة غير معنية بالإحاطة والتوثيق، وعلى من أراد التوسع والتخصص فليطلب علوم اللغة وعلوم القرآن عامةً، وعلم القراءات بخاصة في مظانها الموثقة. ولنطرح موضوعنا على شكل أسئلة:
ما علاقة ما سبق بقراء القرآن الكريم؟
لأن قراء القرآن يفردون في تلاوتهم حينًا فيقرؤون برواية واحدة (حفص أو ورش غالبًا) ويجمعون أحيانًا جمع الماهر بين روايات كرواية قالون عن نافع والدوري والسوسي عن أبي عمرو وخلف عن حمزة. ويعتمدون في اختيار الرواية حسب الجمهور المتلقي، أو حسب مكان القراءة أهي في الإذاعة أم في المسجد؟
لمَ اخترت قراء القرآن في مصر؟
اخترت مصر لأن لقرائها مدرسةً خاصة تطورت عبر القرون، وهي المدرسة الأكثر تأثيرًا وقدرةً على تحقيق مقاصد سماع القرآن يُتلى من فم قارئ متقن. ومن أجل هذا فقد تجاوزت هذه المدرسة حدود مصر فبلغت الشام شرقًا والمغرب غربًا، بل ووصلت إلى ديار المسلمين البعيدة مثل ماليزيا وأندونيسيا.


لماذا نجلس لنستمع إلى قارئ القرآن مباشرة أو من تسجيل؟


قد يظن المتعجل أن أُميَّة الناس قديمًا وجهلهم بالقراءة هي السبب، وهذا غير دقيق أبدًا، فقارئ القرآن إنما يقرأ على المتعلم وغير المتعلم للمقاصد الآتية:


– لأن قارئ القرآن متقن للتلاوة وفق قواعد التجويد في قراءات القرآن المتواترة التي يقرأ بها، فنحن نسمع القارئ لنتعلم أو لنثبت علمًا، وهذه “ضرورة معرفية” عظيمة جليلة.
– لأن قارئ القرآن أوتي صوتًا واضحًا رخيمًا، وهو بذلك على سنن الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري رضي الله عنه الذي أحب النبي صلى الله عليه وسلم سماع القرآن منه.
– لأن قارئ القرآن يمتلك القدرة على التعبير القرآني، ويعني هذا قدرته على نقل معاني الآيات التي يتلوها عبر حنجرته في حسن اختيار الأداء المناسب للمعنى من قرار وجواب، واختيار المقام المصوِّر للمعنى دون تجاوز قواعد التجويد، ودون تعدٍّ على حرمة النص القرآني.


تطور القراءة في مصر


ليس هناك ما يدل قطعًا على البدايات الأولى للمدرسة المصرية الحديثة في عالم القراءة التي تحقق المقاصد السالف ذكرها، ولكن من المرجح أنها استكملت نموها أواخر القرن التاسع عشر. لم نسمع القارئ الشيخ أحمد ندى (ت 1933م) ولكن يذكر من أدركوه أنه كان ذا صوت عذب رخيم وكان يقرأ على النحو الذي وصل إلينا. ومع بدايات القرن العشرين قيض الله لهذه الأمة القارئ الشيخ محمد رفعت (ت 1950م) التي مازالت تسجيلاته مصدر إلهام حتى اليوم لدى القارئ والمستمع معًا. والحديث عن طبقات صوت محمد رفعت والخشوع والإحساس العميق في أسلوبه يحتاج إلى دراسة مطولة.


ومنذ ثلاثينيات القرن العشرين برز أعلام آخرون كالشيخ علي محمود، والشيخ منصور بدار، والشيخ محمد الصيفي، والشيخ علي حزين، والشيخ محمد سلامة، والشيخ منصور الشامي الدمنهوري، والشيخ عبدالعظيم زاهر، والشيخ عبدالرحمن الدروي… وغيرهم. ومنذ الأربعينيات اجتمع مع هؤلاء أسماء كبيرة أخرى كالشيخ مصطفى إسماعيل، والشيخ أحمد سليمان السعدني، والشيخ طه الفشني، والشيخ أبو العينين شعيشع، والشيخ عبدالفتاح الشعشاعي، حتى إذا وصلنا إلى الخمسينيات وكان توفي بعض القدامى ظهر أعلام القراءة مثل الشيخ كامل يوسف البهتيمي، والشيخ محمد فريد السنديوني، والشيخ محمود علي البنا، والشيخ محمود خليل الحصري، والشيخ عبدالباسط عبدالصمد، والشيخ محمد صديق المنشاوي، والشيخ صديق تايب المنشاوي، والشيخ محمد عبدالعزيز حصان، والشيخ أحمد الرزيقي… وغيرهم كثير.
القراء والمقرئون
والمتتبع للتفاصيل يتوقف عند طبقة المقرئين الذين كانوا يعلَّمون القراءات وعند القراء الذين كانوا مقرئين ويمنحون الإجازات كالشيخ الحصري. ومن هنا نرى الارتباط الوثيق بين المقرئ المعلم والقارئ المؤدي. وفي الغالب فإن العامة تعرف القراء بينما يعرف طلبة العلم المقرئين الذين كان لهم فضل كبير في ضبط التلاوات المذاعة، ونشر العلم عبر المقارئ التي لم يخلُ منها حيّ في مدينة أو قرية من القرى.


وفي هذا الأمر ذي الشأن لا يخفى على المحقق أن طبقة المقرئين لم تكن حكرًا على مصر، ففي الشام والعراق والخليج واليمن والسودان والمغرب العربي علماء أجلاء أجازوا أجيالًا من طلبة العلم الذين نبغ منهم قراء كثيرون. وأذكر هنا ما سمعته من شيخي المقرئ أحمد محي الدين الدرة رحمه الله أن الشيخ محمد صديق المنشاوي قدم بالطائرة من القاهرة إلى دمشق ليقرأ في عزاء مقرئ الشام الشيخ الطبيب سعيد بن سليم الحلواني، وحين رجعت إلى تاريخ الوفاة تبين لي أن الشيخ المنشاوي توفي بعد خمسة وعشرين يومًا من قراءته في عزاء الشيخ الحلواني رحمهما الله. وهذه حادثة لا يعرفها محبو المنشاوي، ولولا أن شيخي الذي كان صديق الشيخين وذكرها لي ما وصلت إلينا.


قراء مصر المعاصرون


لنكون منصفين لم تفتقر مصر في هذه السنين إلى الأصوات، بل إلى حسن انتقاء القراء، فقد سمعت من أحد الشيوخ أنه تقدم للإذاعة المصرية في الأربعينيات نحو ألف قارئ ولكن لم ينجح في المقابلات إلا أربعة فقط. وعندما تفقد لجان الانتقاء جزءًا من دقتها فمن الطبيعي أن نسمع بقراء لا يحققون المقاصد التي أشرت إليها أعلاه، ومن ثم فإن القارئ غير الكفء سيعتمد التنغيم والتطريب ليجذب سامعيه ويعوض عن النقص في علمه وملكاته، وسيقوم بمخالفة أحكام التجويد لتحقيق النغم والإبهار، وسيعتمد الدعاية لكسب المال في المناسبات. وأذكر أني حين كنت في مصر صليت وراء إمام متقن جيد الصوت ولكني لم أسمع باسمه بين قراء الإذاعة، وفي مدينتي (دوما) بريف دمشق استمعت لقارئ متميز جدًّا يسلك مسلك المدرسة المصرية، ويمتلك طبقة صوتية وعُرب صوت تذكرنا بالمنشاوي، ولكنه مع ذلك ليس قارئًا معتمدًا في إذاعة دمشق، بل عاملًا يرتزق بعمله ويهب قراءته لله لا يطلب أجرًا إلا منه.


وحين نذكر إذاعة دمشق لا يفوتني التنويه بمكتبتها القرآنية الضخمة الفريدة الخاصة بها والتي باتت من النوادر، واللافت أن لجان إذاعة دمشق اعتمدت لديها بعض القراء المصريين كالشيخ عزت العناني، والشيخ سيد النقشبندي في حين أن هذين العلمينِ لم يُعتمدا قارئينِ في الإذاعة المصرية.
أتذكر اليوم أسماء قديمة من خلال أسماء معاصرة تعيد جوهرة الأمل إلى وسط التاج، في مصر اليوم أعلام كالشيخ أحمد نعينع من مدرسة مصطفى إسماعيل، والشيخ محمود الطوخي من مدرسة رائد القراءة وشيخها الأكبر الشيخ محمد رفعت، والشيخ صديق محمود المنشاوي الذي يعيد مجد أبيه وعمه وجده. ما أزال أستمع للشيخ محمود الطوخي فأتذكر نشأتي مع صوت خالد، وأتطلع به إلى مستقبل قادم.


في القائمة عندي أسماء أخرى تستحق الثناء والإشادة، ولكن رضا الله عنهم أكبر وأجل وأهم من ثنائي عليهم وإشادتي بهم، ومن المؤكد أن الذين هم خارج دائرة الضوء كثيرون، والله يعلم وأنتم لا تعلمون. أما الذين هم في الضوء الساطع وقد اتخذوا القراءة “للترف الفني” والكسب المادي متجاوزين كل المقاصد أو بعضها فلا يخفون على أحد.

الأديب محمود عمر خيتي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *