حين تُبنى الإستراتيجية على قاعدة الحق، يصبح التكتيك لتحقيقها إجراء مبنى على القيّم، والعكس صحيح، “التكتيك” يحول الاستراتيجية إلى إجراءات، ودون ذلك لا يمكنك تحقيق الأهداف.
على وقع طوفان الأقصى، الذي يُعتبر من الناحية القيمية حق أخلاقي ثابت، كفعل وطني لسكان أرض محتلة، حيث نفذوا هجوم مقاوم ضد من يحتل أرضهم، ويحاصرهم ويشن حروب دائمة عليهم، بلا اي رادع أخلاقي بهدف تدمير البنية التحتية وقتل أكثر عدد ممكن من السكان رغم الفارق في ميزان القوة.
ان طوفان الأقصى كفعل وطني نضالي ينضوي تحت الفعل التكتيكي كإجراء إستراتيجي واضح الهدف، والمحدد في تحرير كامل الأرض المحتلة، وكنس سيادة الإستعمار لتعود الأمور لنصابها كحق تاريخي وإنساني لهم، وهو ليس نموذج مستحدث، فهو فعل يعبر عن ذهنية واحدة على مر التاريخ لكل الشعوب التي أُستعمرت وظهر فيها قوى مقاومة حاربت المستعمر بكافة أشكاله، فهذا حق منصوص عليه في الشرائع السماوية ومحمي بالقوانين الدولية، وهو إنساني من الدرجة الأولى، ومبارك لدى جميع شعوب العالم التي عانت من ظلم اي استعمار مر عليهم.
فكرة طوفان الاقصى عام 2023 من الناحية الذهنية الأساسية فعل توأم لعملية عيلبون عام 1964 التي نفذتها قوات العاصفة التابعة لحركة فتح ضد الكيان الإسرائيلي، الإختلاف فقط بالزمان والمكان وحجم الأضرار التي لحقت بالاحتلال، لكن من حيث التكتيك والإستراتيجية فإنهم بذات الهدف وعلى ذات الذهنية. وهو كذلك من حيث الهدف، على سبيل المثال لا الحصر، العملية التي قامت بها جبهة التحرير الفلسطينية بقيادة الشهيد سمير القنطار عام 1979 على مستوطنة نهاريا وتسببت بمقتل مستوطنين على أرض فلسطينيي 48، حيث تحمل ذات المبدأ الوطني مع ذهنية طوفان الاقصى، أيضاً بذات السياق نُفذت عملية إغتيال الارهابي رحبعام زئيفي من قبل الجناح العسكري للجبهة الشعبية في 17 أكتوبر عام 2001 والقائمة تطول عن الفعل الوطني النضالي للفصائل الفلسطينية التي إنطلقت في كل مكان وزمان لتنفيذ عمليات فدائية تحت هدف واحد، (الحق بالمقاومة لتحرير الأرض والإنسان) ، بل هذه القائمة الطويلة التي تعود لقرن واكثر من الزمن ركيزتها هو الأساس القيمي النضالي المحق لكل شعب يبحث عن حريته أمام عدو رفض حتى السلام المزعوم، ويعيث قتلاً وتدميراً لكل سبل الحياة لدى الشعب الذي يملك الحق بالأرض والوجود.
بطبيعة الحال فإن الانتفاضة الأولى (انتفاضة الحجارة) والإنتفاضة الثانية(إنتفاضة الأقصى) تم التخطيط لهم على ذات المعيار القيمي الوطني وعلى ذات الإستراتيجية حتى لو إختلفت التكتيكات الميدانية، وهذه قيمة مسار نضال أي شعب وأي قيادة حيث تطور ادواتها وامكانياتها حسب ميزان القوة والقدرات المستحدثة وما طوفان الاقصى الا تراكمات نضالية بقدرات تختلف ادت إلى فعل خاص في تاريخ الصراع، ومما لا شك فيه ،أن منفذي العملية إستندوا إلى الأساس القيمي الوطني والديني أثناء التنفيذ والذي أصبح معلوم بأن العملية كان لها هدف إستراتيجي واضح، نفذت في تكتيك عالي السرية، وانجزت المهمة خلال ساعات قليلة، حيث تم خطف عسكريين وأجهزة حاسوب من مكاتب عسكرية أمنية وعادوا إلى قواعدهم، و المشهد الذي تلى العملية في ذات اليوم، هو فعل شعبي ، كفعل غاضب على ما زرعه ظلم الكيان فيهم، وهذا بديهي وليس كارثي ولم نرى اي حادث قتل جرى لأي مخطوف داخل غزة، بل الحدث الذي ظهر فيه جثث، هو لجنود اثناء السيطرة على قِطعهم أو في مواجهات خارج غزة، وبات مؤكد ان آلة القتل للكيان الصهيوني بادرت لهجوم طال أماكن تواجد مستوطنين بهدف تسجيل مجزرة يستثمرها لتبرير هجومه المعد له مسبقا ضد غزة، ولأنها تفتقد القيمة القيمية أعلاه مهما ادعت انها تحافظ على حياة مستوطنيها.
بناءاً على ذلك، بعد أكثر من ستة أشهر، أشعلت الضمير الإنساني العالمي ، وأسقطت الاقنعة عن حكومات الغرب لتظهر أدوات حماية لقاعدتهم المتقدمة في الشرق الأوسط المسماة (إسرائيل) ، ليتعرى القانون الدولي أمام قانون الغطرسة الممثل في رأس الارهاب في واشنطن، لا بد من وضع الأمور في نصابها، وعدم المهادنة في معركة الوعي التي تريد قوى الإستعمار وادواتها، إحراز نصر فيها لتشويه الجدوى من المقاومة بهدف كي الوعي من جديد وتثبيت نهج التسويات التي تؤسس لشكل الإستعمار الجديد.
إستخلاصاً مما سبق، فإن الواقع العام، يوفر منصات تواصل للذين يؤمنون في جدوى المقاومة، وأولئك اللذين يريدون تشويهها، واللذين يلعبون بين هذا وذاك، ولا يمكن هنا إعتماد التوضيح على جميع المستويات بل من المؤكد نستطيع وضع خطوط حمر بديهية لكل مسؤول أو قائد عربي بشكل عام وفلسطيني بشكل خاص على مساحة فلسطين التاريخية، وتحديد من يبني استراتيجياته على القيم الوطنية الاخلاقية، ومن يبنيها على ذهنيته الخاصة ليكسب بالتكتيك نقاط لصالحه، ويتسجل إستراتيجياً فعل لا قيم وطنيه فيه، سيندم بعدها حين لا ينفع الندم.
تفسيراً لذلك، على كل مسؤول أن يدرس المعنى الحقيقي للتكتيك، بحيث تكون الإجراءات التي يتخذها هي لتحقيق الهدف الإستراتيجي، وهنا لا بد من الإشارة ان الاستراتيجية مكملة للتكتيك كهدف، حيث أن من يدين طوفان الاقصى كتكتيك، لا يمكن الا ان يجني تحقيق هدف في جوهرة مبنى على إدانة القيم الوطنية الأخلاقية، ولا يمكن إعادة تصويب خطابه او موقفه ، ولذلك الفلسطيني المسؤول يجب أن ينهج منطق المصلحة القيمية الوطنية على حساب ذهنيته ورؤيته إذا كانت لا تستسيغ النضال العسكري المقاوم، وحينها عليه أن يصرح بكل وضوح بأنه لا يعترف بحق الشعوب في تقرير مصيرها بكافة أشكال المقاومة، فلا يجوز ان يكون تكتيكه ارضاء اعدائه تحت منطق الهدف الإستراتيجي بحق شعبه، هذا (تكتيك لا قيمي).
عليه، فإن الإستراتيجية تُبنى على تحديد النهج والجمهور الذي تستهدفه للتأثير عليه، فإذا صرح أي مسؤول فلسطيني على مساحة فلسطين الكاملة وأدان طوفان الأقصى ،فإنه من البديهي قرر بأن جمهوره المستهدف هو بالأساس مجتمع المستوطنين أو قادته، وهذا يُسقط هذا المسؤول في خانة التشكيك بالهدف الإستراتيجي له، حيث يتحول من قيمي وطني الي شخصي على حساب شعبه وحقه، وبذات الأساس يمارس دور كي الوعي لجمهوره الذي ينتخبه او ينضوي تحت تأثيرة، وهنا يمارس دور المستفيد منه وبشكل حصري، ذهن الاستعمار وقيادته.
لذلك على جميع القيادات الأخذ بالحسبان، أن تكتيكاتهم هي مسؤلية عامة فيها ضرر أو فائدة للمجتمع، فلا يجوز إعتماد الدبلوماسية السلبية لتحقيق أهداف إيجابية، فجميع أشكال الدبلوماسية السلبية كأتفاقيات السلام المزعومة على سبيل المثال، كانت أرضية لاستغلال العدو لها وإستثمار الزمن من خلالها، ثم تفكيكها حين يريد ،بل جعل متبنيها في خانة الإتهام أمام شعبهم ،كوسيلة إضافية لتثبيت وتعميق الانقسامات والفتن الممنهجة.
خلاصة القول، بين التكتيك و الاستراتيجية توأمة الهدف ومن يحيد عن الأساس القيمي للهدف، سيسقط في تكتيكه ليظهر بلا قيم.
ان طوفان الاقصى معركة مكملة لنضال الشعب الفلسطيني ومن روحية المقاومة في بلادنا ،وإستمدت عنفوانها من إنتصارات عام 2000 و2006 ،والصمود في المعارك الأخرى بمساندة محور المقاومة وبمشاركة ملازمة لجميع فصائل المقاومة الفلسطينية على رأسهم التنظيمات العسكرية لحركة فتح والجبهة الشعبية والديمقراطية وحركة الجهاد الإسلامي التي إستطاعت خلال السنوات الماضية إحراز انتصارات عسكرية عميقة الأثر قد سندت معركة الوعي والجدوى من المقاومة.
التكتيك و الاستراتيجية لدى الاجنحة العسكرية باتت نموذج يحتذى فيه، ومن لا يستطيع مساندتهم من القوى والشخصيات السياسية على أساس قيمي وطني فليتنحى أو يصمت، وذلك بأقل تقدير خجلا من حجم تضحيات وصبر أهالي غزة فلسطين ،هؤلاء الأسطورة النضالية الخاصة.
الكاتب صادق القضماني