الكتابة والإلهام الصّعب للكاتبة نزهة الرملاوي

إقتباس من رواية ذاكرة على أجنحة حلم

الكتابة بذرة تنمو في بستان الموهبة، تُسقى من عطاء الله، تزدهر عند بعض البشر، يتوّجهم الله بالإلهام ويمهّد أمامهم سبيل النجاح، ليمضوا فيه بتأنّ وصبر وفطنة، برفقة الأهل والمعلّمين الذين لهم دور مهمّ في تشجيع وإرشاد أولادهم وطلابهم الموهوبين، فإما أن يدوسوا براعم أبجديّاتهم ويحطّموا نوافذ تخيّلاتهم، وتنمو بذرة الموهوب يوما دونهم، وسيدرك لاحقا أنّ تحدّيه وإرادته هما رفيقا دربه في أزمات التخلّي ومواجهة الصّعوبات، وإمّا أن يفسح الأهل والمعلمون لأولادهم وطلابهم طريقا للعلا، يمسكون بأيديهم، يعتزّون بإنتاجهم الضّعيف ليغدو أكثر قوّة، يُلبسونهم تاج الثّقة، فيمسون نجوما تتلألأ في سماء الإبداع. وأمّا عن القراءة، فهي الشّمس الموحية للأفكار، كنز مفتوح لجنيّ ثروة لغويّة هائلة تعين على انتقاء الأفضل والأقوى من الجمل والأفكار تعين الكاتب في كتاباته، وسلامة اللغة تمدّنا بالطّاقة فنتميّز بإنتاجنا، فحين أقرأ أراني كالنحلة أطوف أرجاء الكلام، وأرتشف من رحيق المفردات، وأسكب عسلي بمهارة في خلايا الإبداع، يلعقها المتلقّي ويقول هل من مزيد، القراءة هي روح الكتابة، تشكلان معا موروثا ثقافيا ننهل من سبله ما نشاء، وإن وصفت نفسي في حالة الكتابة، أجد أنّ الفكرة تبهرني، ويأتيني الإلهام من حيث لا أحتسب، فأركض لاجتلاب الجمل والحوارات، والاستعارات والتّشبيهات، وأصف الأشياء كما رأتها أعماقي، فألبّي بوصف تفاصيلها شغفي، وأخفّف من تأزم نفسي، وفي الحين الذي أقرؤها فيه، أضع نفسي مكان القارئ، ربّما أكتشف لاحقا تلك الأخطاء أو تراكيب جمل ليست في محلّها، أو تشبيهات فيها لم تدهشني، وربّما أعيد ترتيب كلماتي وصياغتها مئة مرّة، وأعرج بها إلى ممالك أخرى كانت غائبة عنّي في لحظات الإلهام، فأرى فيها مقصدي، فقد عوّدت نفسي أن أسألها حينما أكتب: لماذا أكتب؟ ولمن أكتب؟ وماذا أكتب؟ وكيف أكتب؟


وفي النهاية أسأل نفسي ثانية: ما الذي تحقّق مما كتبت؟ ما الفكرة الجديدة أو المتجدّدة المثيرة التي أضفتها؟ هل اقتنعت ولبّيت رغبات القارئ؟ هل عملت بجدّ وإبداع ليكون عملي هو الأفضل؟ هل يستحقّ الثناء والوقوف عليه كتجربة؟ فالكتابة ليست الصّنعة السّهلة، بل هي الإلهام الصّعب، وهي الموروث المتشعّب المتجدّد، والموجّه الرّوحي الصّادق للكاتب المبدع، والذي بدوره يضيف من عقلانيته وجنونه وخياله وابتكاره إليها، لتبدو إنسانية تحقّق الهدف المرجوّ منها، فتستحقّ الطّمأنينة والإحساس بالعطاء، والصّمود والبقاء أمام وجه آخر للكتابة الزّائفة، فكثيرا ما أشعر أنّي من يرهق الكتابة ويخرجها من قمقمها السّحريّ لتدفع بنفسها إليّ فأطلب منها المزيد، فتراني أقلّب حروفها وجملها وأمحوها ثمّ أتناولها من جديد، أتركها ثم أعود إليها بإلهام جديد، أعيد صياغتها مرارا وتكرارا، أتعبها في الذّهاب والإياب، أستحضرها في السّر والعلن، وأستسمحها عذرا لتتحمّل قسوتي عليها، وتلبّي شغفي بها، أرمي كلّ ضغوط دنياي عليها، وأحمّلها ما لا طاقة لها به، لأسعد بعد ألمها من فوضاي أو رتابتي، من انتهازيّتي المتعمّدة لها حين تتهيأ بعبقريّتها أمامي، وتتجلّى بنهايات تبهرني، فأشعر بنشوة من السّعادة والارتياح تسري في داخلي بعد كلّ نهاية تقنعني باستدامتها، ثمّ أدعوها لاحتفاليّة خاصة، أراقصها وأشرب معها نخب إنجاز يليق بحضرتها، إنجاز يحقّق رؤياي في الاتّزان والجنون، والعبثيّة والاختلاف، ويكون لافتا لمن يقرأُني، أشعرها صديقتي بكلّ ما تعنيه الصّداقة من معنى، فلم يعد لي صداقات تشغلني بمثل طهرها، أو نرجسيّتها التي تترعرع أمامي، أراها فرحة تتغنّى بإبداعات وتجلّيات حالمة،تعفو وتكظم غيظها إن عنّفتها أو همّشتها، وتفرح حين أجعل من أبجديّاتها ممرّا يليق بذائقة القارئين، أشعرها مملوكتي، سبيّتي منذ أن تربّعت عرش الكلام، أتتني متوسّلة وقالت هيت لك، قلت: أنا لك، ونصّبتها وريثة لممالكي الباقية من رؤياي الصّالحات، أناجيها أناديها: صديقتي، يا ملهمتي، يا أناي، سأنتظرك دون العالمين لترافقيني يوم الحساب، وندخل الجنّة التي كنّا نحلم، سنستظلّ تحت عرش الرّحمن كما المتحابّين، الذين يظلّهم الله بظلّه يوم لا ظلّ إلا ظلّه، لا تلومنّني فيما أنا فيه، فأنا أراها تستحقّ مرافقتي دون سواها إلى هناك، بعد أن قسم ظهري غياب المحبّين واحدا تلو الآخر، شعور أخذ يتفجّر في داخلي بعد أن أخذت الحياة أحبّائي لسبل بعيدة عنّي، حملتهم ومضت بهم لأسباب لا زلت أجهلها، أو ربّما أكون أنا من لم يلتمس لهم عذرا فغادروني دون سابق إنذار، يا إلهي، ماذا فعلت بهجة الانتهاء من كتابة روايتي هذه الليلة؟ أراها قد أنهت كلّ هواجسي وطافت بي في فضاء بلا حدود، وها أنا أعدّ نفسي لما هو أجمل، أغلقت الماسنجر، وفتحت ثانية بريدي الالكتروني لأرسل مخطوط الرّواية وأنا أدعو الله أن يكون هذا التغيير الأخير فيها، فلا تطرأ أحداث تستلزم منّي أن أتناولها لعلاقتها القويّة بمجمل الأحداث السيّاسيّة والمعالجة الاجتماعيّة التي

تناولتها في الفصول السّابقة من روايتي تلك، ربّما ألغي حواسي هذه الأيّام، وأتعمّد ان لا أقرأ أو أسمع، حتى لا تنهض ملكتي الكتابيّة من استراحتها في هذه الدقائق، وتؤنّبني على فعلتي الحمقاء المتجاهلة للأمور، ولن أعود إلى الماسنجر لأقرأ رواية امرأة نائمة في وطن بدت أحلامه مكسورة مبتورة كأحلامي.

الكاتبة نزهة الرملاوي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *