اللعنة على هذا البيت وعلى صاحبه. لطالما أخبرته بأن يصلح السقف لكنه يتماطل. كيف سأنام في هذا الجو المطير؟ قد تغافل الهزيم المزمجر لكن لا حيلة تنفع مع البعاق المتسرب من الثقوب إلا التقوقع في زاوية أخرى لبيت بلا زوايا وفي سطح لا وجود له في الأوراق الرسمية.
المضحك المبكي هي الثقوب التي تختار مكان هجعتك وكأنها تطاردك عنوة. في ليل بهيم حيث يأنس الحبيب لحبيبه ويتضرع العابد لربه أنا كنت أعترض سبع ثقوب بأواني الفخارية وألتحف ملاءة صبر عساها تنتهي معزوفة الفقر والهوان.
في الصباح عزمت على تذكير صاحب البيت بثقوبه لكن الوغد سيجدها فرصة سانحة لتذكيري برفع ثمن الإيجار؛ ارتدتني أسمالي وغادرت بي نعالي في صمت إلى الموقف.
الموقف هو مكان يتجمع فيه المياومون أصحاب المهن في انتظار أن يطلب خدماتهم أحد. مهنتي أنا الفقر بدوام كامل إن جاز وصف إصلاح الأقفال وتركيبها، مهنة لا تكفي لدفع ثمن الإيجار ولا تسد باب العوز لكني لا أجيد غيرها.
المطر لا يتوقف لكننا نحن الفقراء لا نملك ترف النوم حتى يعتدل الجو؛ وقفت أنتظر مع غيري متحولقين بأياد ممدودة حول نار أشعلها الانتظار. ذهب السباكون، ذهب مسرحو البالوعات وبقيت كالعادة أنا والبنائين، لا عجب فهذا وطن اعتاد التعايش مع خرابه ومشاريعه المقفلة.
لما انتصف النهار أتى طباخ يبحث عمن يصلح قفل مطبخه. ودعت البنائين بابتسامة تشبه الاعتذار وقصدنا الطابق السفلي للمطعم حيث تجهز المأكولات وبدلت القفل العاطل. أبخسني صاحب المطعم دراهمي لكنه أسكتني بشربة ساخنة في الأعلى.
قليلة هي المناسبات التي تسعفني لرؤية مطعم بذاك الرقي من الداخل. كان غريبا أن أجلس تحت سقف بلا شقوق. عموما قصدت زاوية واحتضنت الإناء الساخن عله يزيل آخر قشعريرة برد. أول ما استفز انتباهي هو تثاقل وشرود الزبائن في الأكل والكلام وحتى النظرات مقارنة بالأسفل حيث السرعة في كل شيء رغم أنها نفس الأطباق؛ هناك فارق سرعة، فارق حياة لا أعلم أين يتبخر. لم أكمل شربتي حتى تيقنت أن شقاء ومعاناة الكادحين أمثالي تهضم في الأعلى بروية وصمت.
في الطاولة المجاورة كان حبيبان ينظران لبعضهما أكثر مما يأكلان. عدل بيد حانية خصلة من شعرها وهمس..
هاته الليلة سمعت الرياح العاتية فتمنيت لو أن ريح الصبا تمر بنافذتك وتبلغك صبابتي.
نظرت إليه الغبية بعد أن تناولت من الحلوى مقدار يوميتي وردت..
حبيبي، كل قطرة مطر طرقت نافذتك كانت قبلة مني إليك ومع كل وشوشة ريح كنت أسمع اسمك.
رباه! إن كان هذا هو الحب الذي أسمع عنه فإني غارق فيه لغاية الكعبين. قاسية هاته الحياة حد السادية حين تجعل من مأساتك دعابات حب يتراشق بها الآخرون ويتغنجون. المطر الذي جعلني أتقرفص بلا نوم في زاوية بيتي المهترئ كان أشعارا وهمسات حب يتراسلها العشاق في رومنسية دافئة. الرحمة أيها العالم فلم يعد في الروح عظمة تكسر.
وأنا ألحس زبديتي وأتجرع هواني رمقتني الشابة بازدراء. آه على الفقر، أنا لا يخلق لي عائقا في حياتي لأني لم أجرب غيره، أكرهه فقط عندما أرى صورتي في عيون الآخرين. هؤلاء الذين لا يعلمون حجم معاناتنا، حجم صبرنا وحتى حجم تجاوزنا عنهم، هؤلاء الذين لا يرتاحون حتى يحسسوك بدونيتك وكأن فقرنا سيزيد من أصفار رصيدهم. عموما لم أعد أغضب من تلك النظرات، فالغضب والعتاب ترف لا يملك الفقير ثمنه.
ذاك اليوم بدا وكأنه يعتذر لي عن ليلته المرهقة، وأنا أعرج على الموقف لمحت شابا يسأل عن مركب أقفال. فرحتي لم توقفها إلا نظرات يائسة في عيون البنائين الذين ما زالوا ينتظرون آتيا لن يأتي. تقدمت إلى الشاب فأخبرني والفرحة بادية عليه أنه لأول مرة سيسكن بعيدا عن سقف العائلة ويرغب في تغيير قفل بيته الجديد. من هيئته علمت أني لن أنعم بحساء ساخن آخر لكنها المهنة، تلاقيك بالميسورين كما تلاقيك بالمعدمين. ذهبت مه ولأول مرة أحسست بالعياء لقصر المشوار. وصلنا دون عناء لبيته الجديد، وبالجوار كانت مركونة بعض الأغراض وسبع أواني فخارية.
الكاتب عبد الغني تلمم