لم تكن مدينة غزة حدثاً ظهر صورة أمام مرأى العالَم، وحتى الطفل وهو يركز على صورة اخته المسجّاة. صور ليس ابشع منها في التأريخ؛ ولم تكن صوتاً َسمِعه العالم بفضاء واسع صرخات وانين.
وغزة لم تدخل صولة المعركة للمرة الأولى، فقد تجرّعت ضربات اوغاد الإحتلال منذ عام ٢٠٠٦ وسنوات بعدها متفرقة خاضت إشتباكات متععدة مع العدو، لكنّها فاجأت كلّ من سَمِع الاخبار ضمير الإنسانيّة بأنَّ السجن، والحصار اللذين اقامهما الإحتلال قد إنَّفك عقدهما المسلط على أهل غزة يوم ٧/اكتوبر لحظات سجّلت فيها المقاومة صورة وصوتاً جديدينِ، وهي تعبّر عن مدى سمو الذات عند الفلسطيني، وهو يرتقي الشهادة لتبقى غزة وكلّ فلسطين.
وليس بعيداً عن ذاكرة شعراء الأرض المحتلّة ان يتركوا بصمات في شعرهم لأجيال وعت وتفهّت قضيّتها. شباب قرأوا قصائد الشاعر الفلسطيني معين بسيسو وقد شكلّت غزة عنده صورة ضبابية، غزة المطلة على البحر يقول من قصيدة له بعنوان طويل “” إلى عيني غزة في منتصف ليل الإحتلال الإسرائيلي””(1)
غزتي انا لم يصدأ دمى في الظلمات
فدمي النيران في قشّ الغزاة
وشرارات دمى في الريح طارت كلمات””
الشاعر يظهر معدن الكلمات التي لم تصدأ بين لون الدم، والظلام، ويستعير لفظة( قش) للدلالة على كسر كلّ حاجز مع العدو حين يمزج الدم مع نيران الغاشم، و يصوّر شرارات الدم مع ريح العدو في الشر، والظلم. وطن الشاعر الذي إغتصبه الكيان الصهيوني.
ويؤمل الشاعر نفسه مع كثير من أبناء شعبه بالعودة التي لا بُدَّ منها بعدما عاشوا التهجير لنكبة ١٩٤٨.
“انت يا إكليل شعبي وهو يذمي في القيود
إنَّنا سوف نعود
وعل دمى الوانك يا قوس قزح
وستذرُ الريح أشلاء الشبح” .
ونص آخر للشاعر الفلسطيني إبراهيم نصر الله ذاكرة شاهدة على عدم تقاعس شباب غزة عن تحرير أرضهم، وذلك عن حادثة إختطاف أربعة فلسطينين حافلة إسرائيلية عام ١٩٨٤ومطالبهم بإطلاق سراح معتقلين من فلسطين؛ وتمَّ إقتلاع عيون اثنين من المقاومين قبل قتلهما. بدم بارد(2)
“حينما يصبح الجند أكثر من شرفات المنازل
والياسمين وأبواب غزة
حينما يصبح السجن في لحظة مُدناَ
اين تعلو نوارس غزة
حينما يصبح الموت فاتحة للغيوم.. السهول
وانوار غزة.”
يبدأ النص بالدال الظرف (حين) والمدلول (غزة) بوصف غزو جند الصهاينة لها فاق كلّ شيء التقطتها عين الشاعر، امكنة شاهدة على مدى ترابط الفلسطيني معها شكلّت ثراثاً وتأريخاً لأهلها؛ ويوظّف الشاعر جند الإحتلال مهمّة السجن تعريفاً لأهل غزة يطوّقهم وحتى النوارس لا يتركها إلى أن أصبحت مدناً.
“يكون الموت طريقاَ لكلّ غيمة سوداء
تغطّي سهول وانوار غزة”
ويرسم الشاعر صورة الفلسطيني للمُحبّ لارضهِ ولغتها وشاطيء غزة
“معادلاً للموت عند الغزاة
يخرج الحُبّ نحو الشوارع يشعل أقمار غزة
شارعان.. زقاق.. وباب.. دم نابض كالحذر
كلمة السَّر
حبُّ”
وليت الشاعر قد عاش اليوم ليرى غزة كيف اضحت حجراً على حجر، وآلاف من الصور في الشارع. الزقاق والباب كما وصفها الشاعر ولكن بصورة إبادة جماعية مدمية، وليس لاوغاد الإحتلال ايّة إنسانيّة.
*
وينهي الشاعر نصّه عن سعي الفلسطيني المزارع، والفلاح إلى زراعة ارضه باللون الأخضر يرمز إلى النماء والهناء وللّقمة؛ وليس رصاص العدو غاص حتى في اجساد الأطفال كما لو أردنا تثبيت صورة غزة بعد ٧/اكتوبر. يقول
“وخطّتنا ان نسير إلى عسقلان وان نزرع فيها الشجر
ونمضي إلى رفح وهنالك نجني الثمر
والهدف:
ان يكون الفضاء لهذي العصافير
لا للرصاص الذي غاص في دمنا وإنتشر”
وهنا نلاحظ إشارة الشاعر في علامة الترقيم (النقطتان) وهي تفيد التفسير، والتوضيح، والتعداد ان يوضح يفسّر أمام العالم إنّ حرية العصافير في أرضه هو ما يريده لا صوت الرصاص.
وذاكرة ثالثة للشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان (3)من قصيدة لها رجوع إلى البحر عام ١٩٦٠ تصو.ّر لحظة ترك ارض فلسطين حيثما كانت، وقد تشبّثت الشاعرة بشاطىء غزة تبّث اوجاعها في الشِتات بنداء يمتّد صوته اجيالاًتواجه القدر المحتوم على أهل فلسطين. تقول.
“انَّا سنمضي عن شواطئك الضحوك
سنعود نُسلّم للرياح شِراعنا
ونظِلّ نحمل تيهنا وضياعنا
يا تيهنا وضياعنا
في الصخب الهدّار في هذا الخضّم بلا قرار
يتصارع الموج الكبير””
ولعلّ الشاعرة ادركت فداحة الصراع مع الغاصب، وهو يتسلَّط عليهم كالمدّ الهائج بعدما كانت شواطيء مستبشرة ضاحكةإستعارة للفرح،والسرور.
وتستمر إشارة الشاعرة إلى إنّ ضياع الأرض سيكون من اعمار أهلها، ومواجهة هذا الصخب – الكيان الصهيوني سيحدد مصيرهم بين البقاء، والضياع وعمق الجراح التي لحقت بشعب فلسطين.
“”وهناك نعطي عمرنا
للصاخب الهذاّر نعطي عمرنا
وكفاحنا
وهنالك سوف. نواجه التيه المحتّم والمصير
ونحنُ نحضنُ كِبْرنا
وجراحنا. “”
هذا قليل من ذاكرة شعراء ارض فلسطين، بين ألتمنّى والوعود وبين اليأس، والخضوع شعراء شاهدوا وشهدوا على وقع جريمة اغتصاب فلسطين، ولنا ان نذكّرهم بعد مرور خمسة وسبعين عاماً بما مرّت به مدينة غزة بعد ثلاثة أشهر من الحرب التي واجهت بها فصائل المقاومة البطلة المحتل الغاصب اراضيها. اليوم يا شعراؤنا تبدو غزة اطلالاً تحمل جحيم الأرض، وتعيش رفقة الموت ينزل على أهلها كلّ دقائق! شعراؤنا يامنْ رحلتم، وتركتهم التيه، والمصير القاتم.. اليوم غزة في إبادة جماعيّةليس لها إلأّ اللّه في عَالَم الغابة الغربيّة هنالك في بعض بلدانها حين يسمّي الإبادة الجماعيّة. دفاعاً عن النفس.، يوم ساوى بين الضحيّة، والجلاّد.
وها هي ذاكرة الشعراء باقية لاتنمحي حتّى لو سُويّت ارض غزة تراباً عن بكرة ابيها، لكنها ستبقى في المآقي، و الشفاه على لسان أهلها، وكلّ. عربي فهي قويّة لا تنحني من ضربات الغاصب المحتل.
(1)مجلة عالم الفكر. ا.. إبراهيم نمر…. الكويت/٢٠٠٧/ص٧٢
(2)المصدر نفسه. ص/ ٧٥
(3)ديوان فدوى طوقان بيروت. دار العودة ط١ سنة/١٩٧٨ / ص٣٩٨
الكاتب علي إبراهيم