صراع الحضارات للكاتبة رنا يتيم

صراع الحضارات نتاج بديهي للاختلافات السياسيّة، والاقتصاديّة المُندلعة بين الدول القوميّة خلال الفترة التالية للحرب الباردة، وتشمل كُلًّا من الحضارات الإسلاميّة، الصينيّة، اليابانيّة، الهنديّة، الغربيّة، الأفريقيّة وأمريكا اللاتينيّة، وتُعزى الأسباب بالدرجة الأولى لهذه الخلافات إلى الاختلاف الثقافي فيما بينها. يُمكننا تعريف صراع الحضارات بأنّه عبارة عن إطار تَحاوري بين عدد من الثقافات المُختلفة فيما بينها، نظرًا لسعي كلٍّ منها إلى فرض ذاتها وثقافتها على الأخرى، وبالتالي يُهيمن الصراع والطغيان الإنساني على هذه الحضارات.

الصراع بين الدول، والجماعات دائمًا ما تولد نتيجة للرغبة في السيطرة على شيء ما كالناس، الأرض، الثروة، القوّة، النسبيّة، أو هي القدرة على فرض الرأي، والثقافة الخاصّة بدولة، أو شخص ما على جماعة، أو دولة أخرى باللين، أو القوّة. 

فكرة الصراع الإنساني قديمة في حدّ ذاتها لكن بدأ الحديث عن صدام، أو صراع الحضارات يشغل بال الكثيرين من الاستراتيجيّين، والمهتمّين بالشأن الدولي، وبمسألة العلاقات الدوليّة تحديدًا، حيث بات يشغل جزءًا كبيرًا من المساحات الإعلاميّة ـ المقروءة والمكتوبة ـ المُخصّصة لمعالجة القضايا الدوليّة، وصار أحد أهمّ القضايا الكبرى التي تشغل بال المفكّرين وصُنّاع القرار في مختلف أنحاء العالم، وخاصّة بعد أحداث ١١ سبتمبر في نيويورك، وواشنطن، والتداعيات المرافقة لها، التي مزّقت الستار الشفّاف الذي كانت تتخفّى خلفه كتل الحقد العنصريّة لتنجرف كالسيل حممًا، وبراكين في فلسطين، وفي الولايات المتّحدة الأمريكيّة نفسها، وليعبّر عنصريّو الغرب في فرنسا، إيطاليا، إنكلترا، بلجيكا، وهولندا عن حقدهم الدفين بكلّ أريحيّة بدون وَجَل، أو شعور بتأنيب الضمير، فالآخر الذي هو الإسلام، هو عدوّ لا بدّ من مُحاربته بدون رحمة.

إنّ أشهر من تحدّثوا عن صراع الحضارات هو الدكتور، وعالم المستقبليّات المغربي المهدي المنجرة في أوائل التسعينيات، حين قدّم شَرحًا عميقًا لمفهوم صراع الحضارات خلال لقاء له مع مجلّة المرأة الألمانيّة، وقدّم تفسيرًا للمُصطلح مُعتبرًا أنّ الحرب الحضاريّة الأولى تقتصر على حرب الخليج الأولى. وقال بأنّ صراع الحضارات قد تأسّس بعد مروره بثلاث مراحل رئيسيّة لها أثر على مرّ التاريخ، وخاصّةً خلال القرون الأخيرة الأولى.

ثمّ جاء مُصطلح صراع الحضارات في أطروحة “صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي” لمؤلّفها العالم السياسي الأمريكي الأصل صاموئيل هنتنجتون نشرها عام 1993م؛ حيث قَدّم نظريّةً ليصف ما يدور حول الحضارات الكبرى المُشاركة في الحرب الباردة، وجاءت هذه النظريّة بمثابة ردّ مباشر لما قدّمه تلميذه فرانسيس فوكوياما من أطروحة تحت عنوان نهاية التاريخ والإنسان الأخير.

مقال هنتنجتون الذي طرح فيه نظريته أثار جدلًا استمرّ ما يقرب من ثلاث سنوات، حيث أنّه لمس عصبًا في أناس ينتمون إلى جميع حضارات العالم، وبعد هذا الاهتمام والجدل الذي دار حول المقال، طبع هنتنجتون كتابه بعنوان ” صراع الحضارات” والذي تناول فيه عدّة أمور هامّة كمفهوم الحضارات، مسألة الحضارة الكونيّة، العلاقاتبين القوّة والثقافة، ميزان القوى المُتغيّرة بين الحضارات، العودة إلى المحليّة، التأصيل في المجتمعات غير الغربيّة، البُنية السياسيّة للحضارات، الصراعات التي تولّدها عالميّة الغرب، التوازن والاستجابات المُنحازة للقوّة الصينيّة، مُستقبل الغرب، وحضارات العالم.

تُشير هذه الأمور إلى أنّ عالم ما بعد الحرب الباردة مُتعدد الأقطاب، ويقصد بها الحضارات التي يتكوّن منها العالم، وأنّ ما يحكم العلاقة بين تلك الحضارات هو “الصِدام”، هذا الصِدام أساسه الثقافة أو الهويّة التي تحكم كلّ حضارة ، وذلك كما قال هنتنجتون: ((إنّ الثقافة أو الهويّات الثقافيّة، والتي هي على المستوى العام، هويّات حضاريّة، هي التي تشكّل أنماط التماسك، والتفسّخ، والصراع في عالم ما بعد الحرب الباردة )). مع العلم أنّ العوامل الثقافيّة المُشتركة والاختلافات هي التي تُشكّل المصالح والخصومات بين الدول، ونلاحظ إنّ أهمّ دول العالم جاءت من حضارات مُختلفة، والصراعات الأكثر ترجيحًا، هي الصراعات القائمة بين جماعات، ودول من حضارات مختلفة، وأشكال التطوّر السياسي، والاقتصادي السائدة تختلف من حضارة إلى أخرى كما أنّ القوّة تنتقل من الغرب الذي كانت له السيطرة طويلًا إلى الحضارات غير العربيّة، والسياسة الكونيّة أصبحت مُتعدّدة الأقطاب والحضارات.

ومن أهمّ القضايا التي تحدّثَ عنها هنتنجتون في كتابه أنّ الحداثة ليست المُنتج للحضارة

العالميّة كما كان يعتقد أصحاب نظريّة الحداثة؛ فقد عارض هنتنجتون كارل دوتش صاحب نظريّة الاتّصال، كما عارض روستو، وغالبرايت أصحاب نظريّة التّقارب. وأنَّ الحضارات الآسيويّة أصبحت ذات قوّة أكبر في مختلف المجالات الاقتصاديّة، والسياسيّة، وكذلك العسكريّة، وأنَّ العالم الإسلاميّ أصبح قوّةً حقيقيّة وهي عامل تهديد للحضارات التي تجاورها على حدّ رأيه، وقد قَدَّم مجموعة من الإحصاءات التي تُظهِر تناقُص الأوروبيّين بالنّسبة للعدد الإجمالي لسكّان العالم، وفي المقابل تزايد عدد الآسيويّين والمسلمين. كما ذكر في كتابه الامتداد الإسلاميّ من النّاحية الجغرافيّة، وكذلك من النّاحية السُكانيّة، حيث وصلت مساحة البلاد الإسلاميّة إلى ما يقارب 21% من المساحة المأهولة، ووصل عدد المسلمين إلى مليار نسمةٍ، فسيطروا على نسبة كبيرة من الاحتياط العالميّ للنّفط، والغاز ممّا أثار قلق هنتنجتون من أنَّ العالم الإسلاميّ غير قادر على مواجهة تحدّيات التنمية الاقتصاديّة، ومن جهة أخرى يَذكُر هنتنجتون دور الصّراع العربيّ الإسرائيليّ في ظهور بعض التّنظيمات المُتطرِّفة.

بالإضافة إلى قوله بظهور نظام دوليٍّ جديد يقوم على أساس الحضارة، وهو يضمّ تجمّعات اقتصاديّة لها هويّة مُشتركة، وهذا سرّ نجاحها، وقد ذكر هنتنجتون أمثلة على ذلك منها مجموعة الكاراييب التي تضمّ مستعمرات بريطانيّة قديمة يَبلُغُ عددها ١٣ مستعمرةً، وبحسب رأيه فإنَّ العالم سوف يُقسّم إلى ثمان حضارات وهي: الحضارة الغربيّة، الحضارة الصينيّة، الحضارة اليابانيّة، الحضارة الإسلاميّة، الحضارة الهندية،

الحضارة الأرثوذوكسيّة، حضارة أمريكا اللاتينيّة، والحضارة الأفريقيّة.

هذه المُنظّمة الثقافيّة تناقض مفهوم الدولة القوميّة في العالم المعاصر، ولفهم الصراع الحالي، والمستقبلي يُجادل هنتنجتون بأنّ الصدوع الثقافيّة وليس الأيديولوجيّة، أو القوميّة يجب أن تُقبل نظريًّا باعتبارها بؤرة الحروب القادمة، وبأنّ الاختلافات أو الخصائص الثقافيّة لا يمكن تغييرها كالانتماءات الأيديولوجيّة، فبإمكان المرء أن يُغيّر إنتمائه من شيوعي إلى ليبرالي، ولكن لا يمكن للروسي مثلاً أن يصبح فارسيًّا. ففي الصراعات الأيديولوجيّة، يمكن للناس أن يختاروا الجانب الذي يؤيّدونه، وهو ما لا يحدث في الصراع الثقافي أو الحضاري، ونفس المنطق ينطبق على الدين، فبإمكان المرء أن يحمل جنسيّتين فرنسيّة وجزائريّة مثلاً، ولكنّه لا يمكن أن يكون مسلمًا، وكاثوليكيًّا في آن واحد.

كما يجادل بأنّ العوامل الثقافيّة تساعد في بناء تكتّلات إقتصاديّة مُتماسكة مثل حالة النمور الآسيويّة وتقاربها مع الصين، وربّما إنضمام اليابان إليهم برغم إنتمائها لحضارة مميّزة بحد ذاتها، وهو ما سيؤدّي لنموّ الهويّات الإثنيّة والثقافيّة للحضارات وتغلّبها على الاختلافات الآيديولوجيّة.

في كتابه، ركز هنتنجتون على الإسلام وقال بأنّ “حدوده دمويّة وكذا مناطقه الداخليّة”، مُشيرًا لصراعات المسلمين مع الأديان الأخرى، ولكنّه حدّد الصراع بأنّه بين “العالم المسيحي” بقيمه العلمانيّة من جهة، و”العالم الإسلامي” من جهة أخرى.

استشهد هنتنجتون بالغزو العراقي للكويت عام 1990، فشعبيّة صدّام حسين كانت مُرتفعة في أوساط الشعوب العربيّة، والإسلاميّة برغم أنّ معظم الأنظمة العربيّة لم تؤيّد موقفه، وانضمّت لتحالف دولي بقيادة الولايات المُّتحدة لتحرير الكويت. جماعات الإسلام السياسي عن بكرة أبيها كانت تُعارض التحالف الدولي، واستعمل صدّام حسين خطابًا شعبويًّا صوَّر فيه الحرب بأنّها حرب بين حضارات، والجماعات الإسلامية نفت أنّه “تحالف دولي ضدّ العراق” بل “تحالف غربي ضد الإسلام”. حتّى الملك الحسين بن طلال، والأردن دولة محسوبة على “محور الإعتدال” المُتصالح مع الغرب، قال بأنّها ليست حربًا على العراق بل “حرب ضدّ كلّ العرب والمسلمين”.

وضرب أمثلة أخرى بالنزاع بين أرمينيا وأذربيجان، وبالنزاع في يوغوسلافيا السابقة.

يُحدّد صاموئيل هنتنجتون عدة سيناريوهات لعلاقة “الحضارة الغربية” مع “الآخرين”. إذ يقول بأن الغرب لا يواجه تحدّيًا إقتصاديًّا من أحد، وقرارات الأمم المتّحدة، وصندوق النقد الدولي تعكس بطريقة أو بأخرى مصالح الولايات المتّحدة، والإتّحاد الأوروبي وإن جاءت مُتنكّرة باسم “المجتمع الدولي” بغرض إضفاء الشرعيّة على قرارات تصبّ في مصلحة الولايات المتّحدة بالدرجة الأولى. إذ تستعمل الدول الغربيّة مزيجًا من القوّة العسكريّة، والمؤسّسات الدوليّة، والترويج لقيم الديمقراطيّة، والليبرالية لحماية مصالحها، وضمان هيمنتها على إدارة العالم، وبأنّ النضال، والسعي العسكري، والاقتصادي للقوّة هو ما سيحدّد شكل الصراع بين الغرب، والحضارات الأخرى مهما حاول الغرب أن يقول أنّ قيم الديمقراطيّة، حقوق الإنسان، الحريّة، العلمانيّة، والدستور هي قيم عالميّة تستفيد منها البشريّة جمعاء. فوفقًا لهنتنجتون صحيح أنّ جوانب من   الحضارة الغربيّة وجدت طريقها في حضارات أخرى، ولكن قيم الديمقراطيّة، وسيادة القانون، والسوق الحرّ قد لا تبدو منطقيّة في عقليّة المسلمين أو الأرثوذكس، وسيؤدي لردود فعل سلبيّة. ووفقاً له الديمقراطيّة والتعليم يؤدّون لعمليّة “تأصيل” المجتمعات وعودتها لـ “جذورها”، تحضر المجتمعات يؤدّي لتبنّيها قيمًا غربيّة سطحيّة، ولكن شرب  الـ كوكاكولا لا يجعل الروسي أميركيًّا، ولا أكل السوشي سيجعل من الأميركي يابانيًّا، فانتشار السلع الاستهلاكيّة الغربيّة ليس مؤشّرًا على انتشار الثقافة الغربيّة.

ويختم هنتنجتون في كتابه بالقول أنّه لا يقترح إختفاء الدول القوميّة، أو بروز هذه الحضارات ككتل سياسيّة واضحة وموحّدة، ولا يقترح أنّ الاقتتال الداخلي سينتهي، ولكنّه يقول أنّ “الضمير الحضاري” أمر واقعي، وحقيقي، ويتزايد منذ إنهيار الإتّحاد السوفييتي، ويذكر أنّ نخب مُثقفة في دول غير غربيّة ستعمل على تقارب بلدانها مع الغرب، ولكنّها ستواجه بعراقيل كثيرة، وبأنّ الصراع القادم سيكون بين “الغرب والآخرين”، والمستقبل القريب يشير إلى صراع بين الغرب، والدول ذات الأغلبيّة المسلمة، وعلى الغرب أن يقوّي جبهته الداخليّة بزيادة التحالف والتعاون بين الولايات المُتّحدة، والإتّحاد الأوروبي، ومُحاولة ضمّ أميركا اللاتينيّة القريبة جدًا من الغرب، وكذلك اليابان.

أمّا فرنسيس فوكوياما ، تناول الأمر من جهة الصراع الذي دام أكثر من خمسة وسبعين عامًا بين الاتّحاد السوفييتي، وايدولوجيّة الصمت الشيوعي، والولايات المتّحدة، وفكرة الرأسماليّة المُتحرّرة من أيّ قيد، والذي انتهى بفوز الرأسماليّة. قال فوكوياما أنّ على العالم أن يتقبّل النظام الجديد بكلّ ما فيه من حريّة، وأنّ الولايات المُتّحدة هي التي بدت تسطّر نهاية التاريخ بعد تبنّيها للفكر المُتحرّر، والديمقراطيّة، والرأسماليّة للعالم، وأنّ من رفض ذلك سيكون في نظر العالم هو الأكثر تخلّفًا عن الدول التي تقبّلت الوضع، وهو بهذا الرأي تعارضَ كثيرًا مع هنتجتون، فالأوّل قسّمَ الصراع الحضاري لخمسة مُنافسين بينما الأخير قسّمَ الحضارات بحسب الأنظمة.

وعلى الرّغم من الانتشار الواسع لنظريّة صراع الحضارات إلّا أنَّها لم تسلم من الانتقادات؛ فقد ظهرت مجموعة من الانتقادات من قبل مُفكِّرين غربيّين وعرب، وكانت هذه الانتقادات تنطلق من الفكر الفلسفيّ والدينيّ لهؤلاء المُفكِّرين وتمحورت الانتقادات حول تعامل هنتنجتون مع الظواهر السياسيّة كمسلّمات جوهريّة في ثقافات الشعوب، تجاهل الحركات البشريّة المُؤثّرة على عمليّة تبلور الهويّات، واتّهمت الأطروحة بالبساطة والسطحيّة، ومن أهم الانتقادات أن تحدّث الفيلسوف المغربي محمد عابد الجابري عن نظريّة صراع الحضارات في كتابه (وجهة نظر في القضايا المُعاصرة)،

وذكر أنَّها ليست حديثة، وإنّما لها جذور قديمة عند بعض الأكاديميّين في الغرب والشّرق، وأنَّ ما فعله صامويل هنتنجتون هو إعادة صياغة هذه الأفكار بطريقة جديدة. وتحدّث المُفكِّر الفلسطيني إدوارد سعيد عن نظريّة صراع الحضارات، وذكر عدم وجود

منهجيّة علميّة في كيفيّة تصنيف الحضارات، إذ إنَّ هنتنجتون لم يلتزم بمعيارٍ ثابتٍ أو واحدٍ في تصنيفه للحضارات، فنراه يُصنِّفُ بعض الحضارات على أساسٍ دينيٍّ كالحضارة الإسلاميّة، والبعض الآخر على أساسٍ جغرافيٍّ كالحضارة الغربيّة، كما ذكر إدوارد سعيد أنَّ البعض يقول إنَّ صراع الحضارات في عصرنا الحاليّ ليس في مجال العولمة الرأسماليّة، بل إنَّ هناك صراعًا تجاريًّا كبيرًا أيضًا بين الحضارات كأمريكا واليابان، إذ إنّ الصّراع هو صراعٌ اقتصاديٌّ بحت.

ذكر مونتغمري أنَّه من الضّروري إعادة النّظر بما ذُكر في نظريّة صراع الحضارات؛ وذلك لإزالة التّشويه الذي يتعلّقُ بالعالم العربيّ الإسلاميّ، إذ حاول هنتنجتون إقناع العالم بأنَّ السبب الرئيسيّ لصراع الحضارات هو الاختلاف الثقافيّ بين الحضارات.

وتمّ استبعاد ما ذكره هنتنجتون بأن الكونفشيوسيّة سوف تتحالف مع الإسلام إلّا إذا كانت هناك مصالحُ اقتصاديّةٌ فيما بينهما، وقال بأنّ هنتنجتون لم يهتم في أطروحته بتوضيح

علاقة العولمة بصراع الحضارات، وتأثير كلٍّ منهما في الآخر بشكلٍ كافٍ.

نستخلص ممّا تقدّم  أنّ الحضارات لا تقوم على البعد الديني وحده، وأنّه لا توجد حضارة نقيّة خالصة، فالحضارات تستوطن، وتهاجر، الحضارات تتلاقى، تتعانق، وتتحاور، الحضارات تتزاوج، تنجب، تنمو، وتشيخ، وإذا كان هناك من حضارة خالصة فهي حضارة الإنسان. فكلّنا يعرف اليوم أنّه يمكن لأيّة صورة، أو معلومة، أو فكرة، أو خبر، أو دعاية أن تنتقل بطرفة عين إلى العالم بأسره بواسطة الأقمار الصناعيّة، أو عبر الانترنت. تلك الحاضنة العقليّة الكوكبيّة التي تتلاقى فيها العقول الفرديّة، والجماعيّة لتوجِد تكوينات اجتماعيّة أعقد، وأرقى، تتمخّض بدورها عن وعي إنساني فائق.

فمن خلال الدراسات والتحليل لأطروحة صدام الحضارات لصاموئيل هنتنجتون التي نفخ فيها الغرب ومجّده تمجيدًا بصفته صاحب الفكر الكلاسيكي، يمكن القول أنّه ولا بدَّ للقوى العظمى من أن تخرج من حالة النرجسيّة وتضخيم الأنا، وأن تبحث بعمق في أسباب الخوف والقلق من ثقافة الآخرين، وحضارتهم ضمن ما جاء من أفكار مُتضاربة في أطروحة صراع الحضارات، والتي أصدرت أحكام تشاؤميّة، واتّهامات مُسبقة ضدّهم.

كما يُفترض أخذ هواجس العالمَيْن العربي والإسلامي بالحسبان، وعدم الخلط بين الإسلام كدين من ناحية، وبين الحضارة الإسلاميّة من ناحية أخرى، وبين التيّارات الأصوليّة أو المُتطرّفة من ناحية ثالثة. وإذا كان تحقيق الأمن وحفظه يتطلّب خطّة دوليّة يجب البدأ بالحدِّ من التسلّح، ومن صناعة الأسلحة النوويّة، والتقليدية المُدمّرة وتجارتها. فالأمن ليس منع الإرهابيّين من القيام بعمليّاتهم فحسب؛ والأمن ليس السلام المُجرّد من توابعه فقط. حيث أنّ الأمن الحقيقي يتطلّب تحقيق الأمن الاقتصادي، والاجتماعي، والغذائي، والصحّي، والثقافي، والتكافؤ في الفرص بين الدول النامية، والفقيرة، والدول الغنيّة. الأمن هو أن يحصل كلّ فرد، وكلّ مجتمع على حقوقه، وحاجته من الغذاء، والصحّة، والتعليم الذي يضمن حريّة التفكير، والشعور والتخيّل؛ التعليم الذي يُعلِّم الفرد أن ينتج وأن يتكامل، لا أن يلهث وراء الاستهلاك، وأن يتصارع، ويقتل، ويخوض الحروب من أجل الكسب، وكلُّ ذلك دون ضغوطات، وهيمنة القوي على الضعيف، ودون استغلال، مع إتاحة الفرصة للجميع لكي يعبِّروا عن شخصيّتهم، وهويّتهم، وثقافتهم، وحضارتهم، ومع إفساح المجال أمام الجميع للمُشاركة في عمليّة التطوّر. حيث أنّ هنتنجتون من خلال نظريّته حول صِدام الحضارات حاول الترويج للحضارة الغربيّة، وعولمة ثقافته على حساب الآخرين، وجعلها هي طريقة الحياة.

الكاتبة رنا يتيم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *