“إدانات قمر هي بمثابة البحث عن صورة وطن مفقودة في جيب مناضل شهيد”
تمهيد:
إن التماهي مع الكون والعيش تحت سماء صافية قد يدفعنا للتفكير فيما يعكر هذا الصفاء والنقاء، فنحن جزء من هذا الكون بل كوكباً بشرياً خالصاً، بالرغم من الحجم الشاسع والممتد على ملايين المسافات تجعلنا ضئيلين بالنسبة لهذا الفضاء، ولكن ضرورة البقاء وتحتم الوجود هي من تجعلنا نؤطر أسباب العيش والحياة والتفكير بما حولنا ويحيط بنا من عوامل مهمة قادرة على التغيير في دستور هذا الكون.
مقدمة:
– قد يرفض البعض وصف الهايكو باعتباره معبراً عن الطبيعة بالحرب، أن تقسو على ما يتمتع بالبراءة بكل هذا العنف والقسوة، ولكن الشاعر هو ابن اللحظة الواقعية التي يعيشها، وليد الزمن الذي يسير به بكل أزقته ولا يمكنه أن يتنحى دون أن يتدخل بكتاباته في الطقس الحربي السائد، إن مفهوم هايكو الحرب ليس أدلجة أو تسييس للهايكو بقدر التكوين الذي بعث من أجل الاستثارة والتفاعل مع الموضوعات الحياتية المنبثقة من رحم الواقع المعاش وإدانتها بصور مشهدية خالدة، تحفر في وجدان الإنسان الكثير من وشوم الذكريات الصعبة التي لا يمكن أن تمحى بسهولة، فنحن أمام الواقعية الإنسانية بكل ما أوتيت من قهر وظلم واستبداد، والهايكست هو مترجم حقيقي للحدث بتحويله الصور التي يراها إلى لقطات تعبيرية تصويرية بليغة البناء ومدهشة الفكرة، في الحرب لايوجد حيادية، لا يمكنك أن تقف على الضفة الأخرى وترى ما يحدث دون أن تتحرض مشاعرك وتتناول يراعك الذي يتحول لسلاح يصوب كل الصور الملتقطة بروح وجسد الحياة لتضفي على بيت نارك الكثير من البوح والمقاومة والتنديد، فهايكو الحرب يمكن أن أعرفه بأنه صور عنيفة مجففة من المشاهد المؤلمة، التقطتها عدسة هايكست متمكن في اختزال الرواية المشهدية إلى ألبوم من الذكريات المناهضة.
– مشاهد عن الطفولة ينقصها”اللا”:
في يوم الطّفل-
داخل خيمةٍ رثّة؛
تبكى الثّكلى أطفالها الأربعة!
أرجوحةٌ في الحرب-
تأتي وترحل سريعًا؛
أحلام الأطفال!
طفلٌ فلسطينيٌّ-
يعبّد طريق الخيام؛
بأملٍ طويل!
إن رسائل قمر عن الطفولة كثيرة، وماهي إلا لافتات إدانة رفعتها ببوح مغمس بدمعها، إنه الجرح الذي يلغي اكتمال الصورة المشهدية، وهي قصائد بمثابة شريطة سوداء تنعي الطفولة في هذا الوطن المغتصب، فما بين زفة الموت الجماعي في قصيدتها الأولى والتي تدير عدستها نحو أم فقدت أبنائها في الحرب، لتحتفي بالدمع في يوم الطفولة العالمي، وبين أرجوحة قد تركتها الحرب وحيدةً تؤرجح ذكريات الطفولة العابرة والتي كانوا سعداء هنا قبل أن يتحولوا إلى أشلاء تاركين هذه الأرجوحة في مجابهة الريح، لتنهي ألبومها بقصيدة عن الأمل الذي ينتظره ذاك الطفل الذي يقيس طريق المخيم بالأحلام والتطلعات لغد مشرق ونهار جديد قد يستعيد بها روحه المسلوبة وجسده المرمي في قطعة أرضٍ ليست له ولا تناسبه.
أطباق صور ولكنها بنكهة الألم:
يشبه الخبز-
في هاون الجدّة؛
علفٌ مخبوز!
في الخيمة-
فنجان القهوة؛
بنكهة الرّمل!
رغم الحرب-
في غزة شموس كثيرة؛
أقراص خبزٍ ساخنة!
الجوع والفقر والذل هي سيميائية الحرب القاسية والتي تفرضُ قيوداً وأغلالاً على الأفواه التي تنتظر لقمة صبر مغمسة بالدم، في الحرب لا يمكنك أن تتناول رغيف خبز عادي، فالأرغفة إما مستخلصة من الغبار أو الدم، هي رائحة الموت التي تنضج من أفران المدينة بدلاً من رائحة الخبز، في الحرب ليس هناك ما تضع الطعام به، فتتحول فوارغ الأسلحة وبقايا الذخائر لمقادير توضع فيها بضع لقيمات قد تكفيك دهراً، هي مجازات الواقع الرهيب العنيف، وهي تشاؤم الحاضر، فحتى الكتابات التي يذوقها القارئ سيستطعم مرارة الحرف وملوحة الكلمة المدعكة بالدمع، وجرح السطر النازف بقصص تقشعر لها الأبدان، وندوب الصفحة التي تقلبها وتترك فيك أثراً لا يشفى، إنه قصائد بنكهة الرصاص الذي يثقب في قلبك الكثير من العواطف.
– الزمان يضع نعوة على الأمكنة:
سماءٌ ملبّدة-
ما أطولَ مساءات الحرب!
يزرعون الكرامة-
على نوافذ مراكز الإيواء؛
أشتال خضار!
هبّة نسيم-
عرسٌ بين الخيام؛
فاصلٌ ونعود للحرب!
عندما يتمسك الزمان بوقته، ولكنه يأبى المسير دون تركه لجرح غائر في خريطة الوطن، فيدفع المكان الثمن، تتحول سماؤه للوحة بيضاء تحتاج أقلام من فحم لتكتب نعوة اليوم، فالأيام في روزنامة الحرب لا داعي لأن تنزع ورقتها، لإنها تسقط منذ الفجر متهاوية مفحمة من أثر النار التي تكوي ساعاتها، إنها القسوة السوريالية التي بتنا نراها في الواقع، عندما تتمرد ريشة الفنان، لتحول الخيال إلى مشاهد تعاش، عندها تهرب اللوحة ويبقى الإطار الذي يلملم أشلاء الألوان التي أصبحت كلها بلون الظلام والبؤس، في التلفزيون، وبين البرامج هناك فاصل ترفيهي دعائي إعلاني، أما في شاشة الحرب هناك فاصل موت بين الحياة والحياة، هو مسافة لتأخذ جرعة حياة قبل العودة للقبر الواقعي الذي يتسع للجميع، هو تابوت الحرب الذي يرفعه الإنسان منذ أول رصاصة تنطلق إلى القذيفة التي تدفنه.- إدانات قمر هي بمثابة البحث عن صورة وطن في جيب مناضل شهيد، أو هي بندقية أدبية شعرية دكتها بالكثير من القصائد المؤلمة المغمسة بعواطفها الحزينة، وأطلقت نحو صدور القارئ كي يتبادل معها المشاعر والأحاسيس وليكون جزء لا يتجزأ من وحدة الأرض والهوية.- أنهي ما كتبت.. بهذه السطور الجميلة مما كتبته الأستاذة إنعام كجه جي في مقدمة كتاب هايكو الحرب آثار الرصاص: “إن من يصغي إلى الهايكو، لا يطرب ويحتاج إلى الاستعادة، بل يصمت وينسحب إلى داخل نفسه، متأملاً خاشعاً متماهياً مع الكون”.
الكاتب مصطفى جميل شقرة