المزاوجة القصدية..أوجه الاختلاف والشبه للأديب محمد البنا لنص دوكي وروز للقاص سعيد رضواني


النص


دوكي وروز

هروبا من حر ظهيرة قائظة، وربما أيضا هروبا من الوحدة، قصدت الحديقة، وحين عبرت بوابتها رفقة كلب، كان هو جالسا على حافة مقعد إسمنتي، تحميه من حر أشعة الشمس، ظلال شجرة ضخمة، هرمة، جذعها مرقش بسهام “إيروس” وقلوب العشاق. كان منهمكا في قراءة رواية، وبين يديه تنطوي تباعا الصفحات التي ولج عبر كلماتها حانة لطالما راقص نساءها مرارا ذات قراءة سابقة لنفس الرواية.

توقفت برهة، وحين لفت انتباهها ذلك المقعد المظلل بالشجرة التي ظلت على مر أيامها شاهدة على طقوس عاطفية سرية عديدة أحست بانجذاب إلى تلك الظلال.
اتجهت نحو ذلك المقعد، تم جلست بحذر على حافته الجانبية تاركة مساحة شاسعة (قياسا إلى مساحة المقعد) بينها وبين ذلك الشاب.
أثارته تلك المسافة الشاسعة، لكنه تظاهر باللامبالاة.
دون أن يلتفت، ورغم المسافة الشاسعة التي تفصله من الفتاة، أحس، ربما، بفعل انتشار ذرات العطر الفائح، بحضور ذلك الجسد الأنثوي، وأيضا برغبته في الالتفات الذي يعدل عنه، وهو يقاوم رغبة ملحة في رؤية الفتاة، وبينما أخذت عيناه تحملقان في فضاء الحديقة، فكر- أو ربما أراد أن يفكر- بأنه لا بد كان سيتصرف مثلها لو كان مكانها، لحظتها شعر ببعض العزاء، وسرعان ما حرره هذا الشعور التعويضي من أسر التزامه بلامبالاته المفتعلة، وبحذر اختلس نظرة جانبية نحو الفتاة؛ جسد رشيق وذراعان بضتان عاريتان وفستان حريري يبرز بنعومة تقاسيم جسدها، روعة آدمية جعلت نظرته المختلسة الحذرة تطول وتطول، مهيجة معها كامل حواسه. والمسافة الفاصلة بينهما التي بدت له قبل قليل شاسعة، أخذت تنكمش وتنكمش إلى أن اختفت تماما، ولم يعد هناك أي فاصل يحول بينه وبين الالتحام وهذا الجسد المرمري المنحوت ببراعة فريدة.
ظل مشدودا إلى هذا المنظر، إلى هذه اللوحة المرسومة بريشة إلهية، تاركا للريح الخفيفة التي هبت فجأة، مهمة قلب صفحات الرواية ثم إغلاقها وإغلاق حانته.
شعر هو برغبة في الحديث، لكنه عاد وخنق تلك الرغبة وهو يفكر
“فتاة رائعة، سأحاول اقتحام عالمها… لا لن أكلمها، وإذا كلمتها، ربما يُكتب لهذا الحوار أن يتحول إلى علاقة حب. رائع… وماذا لو تطورت هذه العلاقة إلى زواج، هذا يعني أن غرفة بيتي ستخلو من الأوساخ والحشرات، ولكن ربما تخلو أيضا من الكتب، إنني أعرف جيدا نساء هذا البلد…”
شعرت هي بأن عينيه تكادان تلتهمان جسدها، فولد لديها هذا الشعور رغبة جامحة في الالتفات تجاهه، وإذ همت بالالتفات انفجرت في ذهنها صيحات صديقاتها وشكواهن الأبدية من الرجال، وخيبات أملهن فيهم، وكان لهذه الهواجس صدى قوي، ومفعول مثبط جعلها تقاوم رغبتها في الالتفات.
نظرته لما تزل مسمرة على جسدها. وحواره الداخلي الصامت لما يزل يدوي في أعماقه
“… وتمر الأيام وننجب أولادا وقد لا ننجبهم، وماذا لو أنجبناهم حتما سيكبرون وسيصغر حبنا… وقد يجدون عملا وقد لا يجدونه… قد يهاجرون إلى أوربا وقد لا يهاجرون إليها، وربما يغرقون في البحر أثناء محاولة هجرة سرية، وأقضي أنا بقية حياتي حزينا… ومالي أنا ووجع الرأس هذا، لننه هذه المسرحية قبل بدايتها ونريح العالم وبقية خلق الله والذين لم يخلقوا بعد والذين لن يخلقوا كأولادي، تفاديا للغرق في البحر”.
تسلل شعاع ذهبي من بين أغصان الشجرة الهرمة، ثم انعكس على السلسلة التي كانت تتراقص على إيقاع حركات يد الفتاة، ذكرها هذا الشعاع بسلسلتها التي بدورها ذكرتها بكلبها فنادت: “دوكي تعال”
هذا النداء جعله يعود إلى واقعه، فتذكر هو أيضا كلبته “روز”، تساءل مهمهما
“أين هي هذه اللعينة؟”
لحظتها كان “دوكي” و”روز” يشمان دون حذر بعضهما البعض.
تسمرت عيناه على هذا المشهد الحميم، فكلبته تنتمي إلى فصيلة “البيت بول” الشرسة، وما يراه الآن بدا مناقضا لطبيعتها وكذلك لكل المهارات التي سهر على ترسيخها في سلوكها، كل هذا تبخر أمام وداعة “دوكي”.
وضعت حقيبتها على المقعد في منتصف المسافة الفاصلة بينهما، ثم وضعت جنبها سلسلة الكلب. أحست ببعض الخجل، إذ أدركت أنها وبشكل تلقائي، رغبت في أن تقرّب شيئا من الشاب الجالس على نفس المقعد، رغبة في ملء ذلك الفراغ الذي -ربما- أشعرها ببعض الذنب… وضع هو روايته لصق الحقيبة، وكذلك سلسلة “روز”. استحسنت هذا التجاوب واعتبرته بداية طيبة لتجاوب أفضل، لكنها سرعان ما لعنت هذا التجاوب الذي قد يؤدي بها إلى مثل تلك النهايات التعيسة التي وسمت مغامرات صديقاتها.
انطلقت “روز” تركض بخفة ورشاقة فوق عشب الحديقة الأخضر وبين فينة وأخرى تلتفت نحو “دوكي” الذي كان يشيعها بنظراته الشبقة.

ودت لو تقترب من الشاب، لكنها لم تجرؤ. كبل اندفاعها إحساس باطني لم تتبين كنهه. ربما كان نابعا من افتقادها للجرأة التي تتمتع بها بنات جنسها اليوم.
أقفلت “روز” راكضة باتجاه المقعد الإسمنتي، يتبعها “دوكي” منتشيا مرحا يسيل لعابه شبقا. حرضت دعابات الكلبين خيالي الشاب والفتاة في آن معا. وفي الحال، وعلى نحو مباغت لخيالها، ألفت نفسها متأبطة ذراع ذلك الشخص المجهول الذي يقاسمها المقعد، يغادران الحديقة مخلفين وراءهما الشجرة الهرمة والمقعد والكلبين… عبرا الشارع ودخلا أحد الأزقة… حوار إيروسي… منعطف بعد منعطف… عناق حار… درب بعد درب… قبلة هنا وقبلة هناك… قفزات على درجات البيت… طقطقة قفل الباب وهو ينفتح، وطقطقة أخرى وهو ينغلق، وأمام غرفة النوم قالت لعشيقها: “اتبعني”
وتبع “دوكي” “روز”اه راكضا بقوائمه الأربع الرشيقة… حينها أخذت شجيرات الحديقة تنمو داخل ذهنه إلى أن صارت دغلا… غابة لامتناهية الأشجار، وعبر الممرات المتعرجة بين صفوف الأشجار الكثيفة أخذ يسير معانقا فتاته التي غزت كامل حواسه بفعل تأثير جسدها البض وعطرها الفائح، بين فينة وأخرى تنير وجهيهما أشعة الشمس المتسللة من بين أغصان الأشجار.
أعادها إلى واقعها شعاع ألهب عينيها، فضيقت جفنيها وهي تفكر في المتناقضات التي تعتمل بداخلها… اختلست نظرة جانبية تجاهه وفي ذهنها انبثقت أسئلة عديدة:
“لماذا أتركه هنا جسدا حقيقيا وأحمله إلى غرفتي خيالا هلاميا لماذا؟”
هو أيضا أخذ يتساءل ويتساءل ناقما على جموح خياله، ومحتقرا ذاته الجامدة المسمرة في مكانها، كأنها هي أيضا قطعة من هذا المقعد الإسمنتي الأصم.
انتبهت إلى ابتعاد كلبها، فنادت: “دوكي ارجع، لا تبتعد”
ولم يبتعد، بل اقترب منها أكثر في أكثر الأماكن سرية بين أشجار الغابة… اقترب منها ثم طوق عنقها بيديه وضمها إلى صدره… وأقفلت هي باب غرفة النوم وعندما توسط الغرفة قالت بجرأة: “قبل عنقي”
وبقائمتيه الأماميتين ارتمى “دوكي” يداعب عنق “روز”… حروف اسميهما أخذت تنطبع على كل جذوع أشجار الغابة، وعلى حافة سرير نومها بالغرفة… وإيروس كان حاضرا هنا وهناك.
أهملا صاحبيهما ونسيا معا السلاسل التي تنتظرهما، وأهملا العالم، وكلها الحياة كانت مختصرة في مداعبتهما لبعضهما البعض فوق عشب الحديقة الأخضر… فوق السرير، وبين أشجار الغابة كانت المداعبة أكثر سحرا وأكثر جاذبية …. وكل شيء كان يسير كما خطط له سلفا؛ المقعد لما يزل ينوء بحملهما، وبينهما الكتاب والحقيبة والسلسلتان… و”دوكي” لما يزل يداعب “روز”… وهو، يتقدم ببطء مفتونا نحو سرير نومها.
بخفة نحت هي غصنا طويلا يتدلى من إحدى الشجيرات مخافة أن يخدش خديها المتوردين… الثياب ترمى بفوضى قرب السرير… والعشب الأخضر ينثني تحت وطأة القوائم الثماني.
لم يعجبه هو المضجع الأول وكذلك الثاني، كلاهما كانا يطلان على ممرين مختلفين، ومن المحتمل أن يراهما شخص ما… لكن الثالث كان آمنا، كان محاطا بعدة شجيرات تحجب الرؤية… استلقت هي الأولى فوق السرير… وبلوعة احتضنها هو ومددها تحت شجيرة على العشب اليابس وعندئذ… وعندئذ أخذ “دوكي” يعتلي ظهر “روز”.
سعيد رضواني / المغرب في ٢٧ مايو ٢٠٢٤


القراءة
__

عندنا مثل شعبي في مصر يقول
” عمل من الفسيخ شربات “
تذكرته لحيظة انتهائي من قراءة القصة، لا أدري لماذا تذكرته رغم التباين الواضح بين مغزاه ومرام القصة!
وإن جاز لي الربط بينهما فأجد ذلك يسيرًا، من زاوية أدبية محضة، ألا وهى أن القاص اقتنص فكرة بسيطة وصنع منها نصًا رائعا.
الفكرة معظمنا كتجربةٍ مرّ بها، كحالة شخصية في وقتٍ ما ومكانٍ ما، أو شاهدها رؤى العين في حديقة أو محطة انتظار ( غريبان متجاوران).
وأجزم يقينًا أن القاص أيضًا لا يخرج عن أي الخيارين السابقين.
والبراعة هنا …كل البراعة تبدت في التفاطه للحظة، من ثم يسبح الذهن محلقًا في فضاءات الخيال، ليبدع ما أبدعه وقرأناه آنفا!
لتأتي المزاوجة لبنة أساسية تغزل منها المخيلة الإبداعية الثرة الخصبة ثمارها ثوبًا جميلاً زاهية ألوانه ببساطتها ورقتها ودقة حياكته.
ذكر وأنثى/ كلب وكلبة…مزاوجة تجلى التشابه فيها متخذًا أشكالًا عدة، منها ( الجندرية/ ذكر وانثى)/( السلسلتان/ المخاوف )/ ( الرائحة وتأثيرها المهيج/ التشمم).
بينما تجلى الاختلاف فيها معلنًا عن نفسه بقسوة( الواقع/ الخيال)/(الارتواء / الحرمان)/( الجرأة/ الخجل)/(الإقدام/ الإحجام).
لكل ما ذكرته سابقًا ما يؤيده ويؤكد عليه في المتن السردي، الذي قدم لنا مقارنة خفية بيننا كبشر( تعترينا المخاوف والعواقب و احتمالات المآلات جراء تقاليد وأعراف وقيم دينية ومجتمعية تحول بيننا وبين غرائز طبيعية، فنعيشها مضطرين خيالًا لا واقعا)، بينما على الجانب الآخر من الحكاية تنعم الحيوانات بها وقتما تشاء وأينما تشاء!

الخطاب السردي أو الموقفية:


النص ليس دعوة للفجر والفجور، وليس محرضًا على مخالفة المحظور، لكنه يقدم لنا تجربة حياتية، مثلها تجارب كثيرة لفرص نجاح في متناول اليد بيسر وسهولة، لكننا نفقدها بالتردد والتفكر الزائد عن الحد، والاستغراق في حسابات الفشل، ومن ثم نعطي لها الأولوية على فرص النجاح، فتمضي حاملة نجاحاتها تحت أبطيها مبتعدة في أسى عنا، ومتحسرة في ذات الوقت علينا، بينما ينجح آخرون في اغتنامها، تماما مثلما فشل الشاب والفتاة، ونجح دوكي وروز.

البساطة السردية عنوان الجمال:


هذا السرد البسيط المنساب في هدوء لا تخطئه عين قارئ، إذ نأى عن الاستعراض اللغوي، بل وأضاف نكهة ساخرة محببة تجلت في عدة مواقف ايحائية ومنها على سبيل المثال لا الحصر ( لم يعجبه هو المضجع الأول وكذلك الثاني، كلاهما كانا يطلان على ممرين مختلفين، ومن المحتمل أن يراهما شخص ما… لكن الثالث كان آمنا).

التقنية السردية :


اعتمد القاص المزاوجة العكسية والطردية كعامل موضوعي معالج لفكرته، والعكسية أنشأها باختياره ( الفتاة أنثى/ كلبها ذكر، الشاب ذكر / كلبه أنثى)، يينما الطردية كانت في ( السلسلتان، المخاوف)، فعندما تحرر الكلبان من قيدهما انطلقا، بينما وضعت السلاسل متجاورة بين الشاب والفتاة كإشارة سيميائية لتفاقم وتضخم المخاوف في نفسيهما.
كما اتكأ القاص أيضًا على الثنائية المتتالية ( الانتقال المشهدي الداخلي بين الفتى والفتاة، والخارجي بين روز ودوكي ) في تتالٍ محكم ومترابط وحبكة جيدة.

الزمكانية السردية:


الزمن السردي لحظة والمكان حديقة ومقعد، بينما اتسع الكادر المشهدي السردي المفعم بالحركة الديناميكبة والحركة النفسية ليشمل غابات وادغال، وممرات وحارات وأزقة وبيت وغرفة نوم وسرير / واستباق وتشابك إيدي وقبلات وغنج وشهوة/ وخيال وواقع).
**


الأديب محمد البنا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *