تعد الشخصية أهم المرتكزات التي يقوم عليها العمل الدرامي ، وبروز الشخصية الإيجابية التي تحمل الصفات الإنسانية، ونزعات النفس البشرية أمر هام له مسبباته وتداعياته؛ خاصة حين تتجاوز على الأعراف والتقاليد، أو الخطوط الحمراء للمجتمع والبئية .
والناس – بطبعهم – يميلون للخير ؛ فأحبوا شخصية الشيخ العجوز الحكيم الهاديء الرزين ، وأحبوا كلماته وعباراته وجمله ونبرة صوته وحفظه وبصيرته ، وعصاته .
فيكاد يكون العمود الفقري للنص، ولا يمكن أن تجري الأحداث في الواقعين: الحقيقي ، والمتخيل ؛إلا بوجود شخصيته التي تمسك بمجموعة من الشخصيات التي تمارس فعلها في إدارة تلك الأحداث،فهو الأب لفارس المسلسل وغزالته؛ فكانت علاقته بالاحداث علاقة تبادلية، فلا وجود لأبطال المسلسل من دون ذكره غائبا أو حاضرا…
“… طالع الجبل لحالك ياولدي ؟ الجبل مش بس هجامه ، الجبل مليان ديابه وضباع وحنشه…البدري صمم ولو منعته كنا انتهبنا وعلوان كان وصل لغرضه ، يقدر يطلع الجبل ودبور وياه…ولدي جه أنا وعيله ….هم يابدري ..هم يا ياسين …وعيلهم وعيلهم ..جم جم جم …أنتم عميتوا إياك؟”
يحكي المسلسل عن الصعيد المصري وتقاليده وعاداته والعصبية الشديدة التي تحوي هذا المجتمع وهذا في إطار قصة بلدة تسمى (بهتون الجبل) و عائلة (هوارة) ذات العادات العصبية، كما كانت نقطة انطلاق المسلسل بالتزامن مع حادث الزلزال الشهير كما أتربطت شخصية “علوان” التي جسدها الراحل عبد الله غيث بكثير من الأزمات القدرية.
كان الشيخ محبا للتعليم ، ميالا لتعليم المرأة ، تخرج ابنه البدري في كلية (الزراعة ) وابنته (وردة ) تعلمت في مدارس (قنا) حتى حصلت على الثانوية العامة..
” -مالها المدارس يالبيبة ؟ ..وردة زي الوردة اسم على مسمى …مع وردة ياولدي (ياسين ) وعاود قوام …بنتي هتتعلم وهتاحذ الثانوية العامة السنة دي….وإن قدرت ادخلها الجامعة هدخلها..”
فوردة أم أبيها ووصية أمها ، وهي زهرته الفواحة بعطر المودة وبستان أمله وعمله وحياته “.. وانا يابنيتي متنزليش لقمة من زور إلا إذا أكلت معايا أنت وأخوك..روحي يابنيتي عيد الميلاد و(ياسين) يستناك على قطر العشية ..”
وقد أوصى أخاها بها خيرا “… خليك حنين على خيتك ..أنتم مالكمش غير بعضيكم …أنت حنين بس مش خابر ليه كلامك واقف معاها كده؟1الكلمة الطيبة صدقة فما حال مع خيتك اللي مالكش غيرها ..وردة زي الملاك ورثت أمها في طيبتها كمالها ورقة قلبها ، كيف تقول الكلام ده وأنت اللي تعلمت ودخلت الجامعة ..همل الكلام ده للجهلة ..والله ولا كنك اتعلمت يابدري!”
وكثيرا ما كان يتمنى من (بدري) أن يكون في مكانة علمية تليق بمؤهله وتعليمه ..” …أديك ياولدي أخدت شهادة الزراعة الكبيرة لكن قعدت تزرع وتقلع زي أي فلاح تبقى فرقت إيه، زملاتك في مصر واسكندرية وقنا اتوظفوا واترقوا واتزوجوا..فيه ايه لو اتوظفت واتجوزت من البندر زي زملاتك ؟ بقيلك إيه من علامك ؟ أخرة الماتة قعدت في البلد قعدة أبوك..تصالح هواره وتناهد فيهم ويناهدوا فيك..أنا مش دايملك ياولدي وعلوان أبو البكري الغيرة مالية قلبه وقاعد لك زي ديب متربص..وتحت يده مال مراته وأرضها ودراعه اليمين دبور سعتها لو غلبك يبقى لاحصلت كده ولا كده..”
كان يدرك أن التعليم يزيد من وعي المرأة بحقوقها، ويُعرفها على أهم واجباتها، كما ينمي وعيها حول الاهتمام بنفسها وبعائلتها، إن تعليم المرأة يُعَدُّ من أعظم القيم المعرفية التي تسهم في بناء الأمة الإسلامية، وتسهم في إعداد المرأة لأداء دورها في التنمية والنهضة، تعددت مقاصد تعليم المرأة، فشملت مقاصد إنسانية، ومقاصد شرعية، ومقاصد اجتماعية، ومقاصد تنموية، فالتعليم يُعَدُّ من أعظم الوسائل لتحقيق إنسانية المرأة، وتمكينها من أداء التكاليف الشرعية، وإعدادها لأداء دورها الاجتماعي والتنموي في خدمة الأمة الإسلامية.
لكن من يليق بوردته بعد هذا التعليم؟! ” ….ووردة علمتها لغية مابقت في توجيهي وياريت ما علمتها …مين يليق بيها في بهتون ولا حتى في هوارة كلها ما انت خابر عادتنا هنجوزها لمين؟ لحد من ولاد أعمامها ميعرفش يفك الخط؟ كنت بتحجج بالعلام ، لما تنجح هتحجج بايه؟ فيها ايه لو كنت هملتها زي بقية البنته؟ “
لذا نجده حوي منهجً ولده؛ لإعداده إعدادًا يخدم بناء شخصيته، ويخدم بناء مجتمعه على أسس علمية صحيحة. فقد كان لنصائحه وتوجيهاته، وإسهامه الواضح في حل مشاكل هوارة دون الحاجة للشرطة والحكومة ” … ياجضرة الضابط احنا بنعقد المشكلة ولا بنحلها ؟! يعني لما يكون فيخه مشكلة نحلها قبل ماتيجي لحضرتك يبقى خير وبركة ..أنا قلبي على جهد الحكومة وجهد حضرتك في القضايا اللي ما تستهلش…بعدين هتعرفنا زين ياحضرة الضابط..خد بيدي ياولدي…”
وكونه على جانب عظيم من المعرفة العلمية، مع قدر كبير من القدوة والمكانة بين أهله، وتُعَدُّ القيم جزءًا مهمًّا في الإطار المرجعي لسلوكه في الحياة العامة، وفي مجالاتها المختلفة دينيًّا وعلميًّا واجتماعيًّا، واقتصاديًّا وسياسيًّا، وهي تؤدي دورًا مهمًّا في حياة الفرد.
“…يعلم الله ياولدي ما كنت عايز ده لك ، لكن خلاص مادام ده هيبقى مترحك الأصلح من النهاردة تقعد فيه عشان هواره تقبل حكمك وتتعود عليك ..ياولدي أنا خلاص كبرت يالله حسن الختام …أنا غرضي أطمن عليك ، أقف جنبك طول ما أنا عايش عشان لما ربنا يأذن يبقى كل حي عرف مقامه…اللي يحكم بيه البدري يمشي على هواره كلها وأنا أولكم …مين هيخالف؟”
لقد نجح الكاتب الكبير (محمد صفاء عامر) في رسم شخصيات مسلسله ، فكان لكل شخصية عتبة من عتبات حلقاته المتتالية في وصف نزعات الشخصية الصعيدية ، والأسباب التي أفضت إلى رسمها بصورة ذات حبكة سردية تحكي كل منها حكاية تشبه في ملامحها وصفاتها بعض الشخصيات في واقعنا المعاش.
والمسلسل يرصد ما لحق بالمرأة من تعسّف وظلم كبيرين، خاصة الظلم ، بوصفها الحلقة الأضعف في مجتمعات العنف، والقهر والتسلط والعصبية، غير أن الطريقة التي قُدِّمت بها تلك الشخصيات من خلال عرض المسلسل الذي بصور ثقافة المجتمع من منظور الكاتب والمخرج ، وإبراز صفاته، وأنماط تعامله مع المرأة، خاصة في ما يتعلق بقضية التسلط والعصبية ، وكيف وظَّفت الكاتب شخصياته في عرض جميل الآراء والأفكار، وقدرته في إيصال الصوت الإيجابي من خلال الشيخ (بدَّار) كبير هواره.
“… حسيت أنك عاوز تكلمني لحالي هو شرع ربنا يزعل ؟ بس كأنك خابر عوايدنا ، مكلف خاطرك وجاي تكلمني في الموضوع ده ليه؟
والله كلامك زين ، لله الأمر من قبل ومن بعد ، وين شفتها ؟ هي تعرفك؟ عافية عليك … لو نكرت كان كلامي معاك هيكون له شكل تاني..
يا ولدي الصير الموضوع تطير فيه رقاب لو حد حس بيه..هجيلك قنا بعد يوم أو اثنين ماتجيش أنت..
خبره أن المهندس قابلني وجاي ليه وإيه قولك ؟ طب والعربي؟ وهواره؟ كفياك ربنا يسويها ..
أنا أغصب عليك؟ أنا رجل حامل كتاب الله ، وخابر شرعه ، ولو كان عليا اختار بين كتاب الله وشرعه على تقاليد هواره أختار شرع ربنا …
لقاء علام صديقه من أيام الدراسة يقصده في البحث عن عريس ابنته والتحري عن عائلته…ثم مقابلته وشكره قيل العوده لبلده.
الباشمهندس رجل كفء لبنتي ..ضحيت بحاجات مهمة مكنتش أحب أجي لحد عندكم تطلبوا مني بنتي لكنها إرادة ربنا..
الشرط الوحيد ..ياحد عروسته ويسافر ويبعدوا عن أهليتا ، يعلم ربنا أني كتمت سرهم عن ولدي..اللهم فاشهد..
المهر إن جوزها يحافظ عليها …وردة قربي خدي مهرك ودول 5000ج شوارك ودول ذهب والدتك حافظي عليهم …واسمعي مني كلمة أخيرة يمكن الوجوه ما تتقابلش تاني ، أوعي حد ينظرك من أهلينا …والبدري مع الأيام هيعقل ويركز ويرضى بالأمر الواقع …”
إن شخصية الشيخ العجوز الأزهري المتمرد ظهرت معاكسة لشخصية (علوان البكري ) السلبية الشريرة التي تلوثت بدم (مهجة وياسين ) وسلبت (نعمة ) أرضها.. فعندما حاول (ياسين ) منع (علوان ) وهدده بكشف سره ، قتله علوان –غير آسف- “..ياسين لم يكن له أعداء كان كيف النسمة كل هواره تحبه ، كان غلبان ويتيم ، الثار بيتاخد من الروس الكبيرة والثار مش بالخنق ، يمكن حرامية …خسارتي فيك متعوضش ياولدي حسبي الله ونعم الوكيل ، هصلي عليه وأدفنه بيدي زي ما اتولد على يدي، الوجيعة ثقيلة وتوقع جبل لكن الشيخ بدَّار أقوى من الجبل…”
ثم يموت الشيخ بدار إثر صدمة قلبية مفاجئية بسبب اتهام البدري يقتل أخته ، لقد كان مسلسل “ذئاب الجبل” من الأعمال التي تمثل كلاسيكيات الدراما المصرية، والتي حققت نجاحًا كبيرًا خلال عرضها في شهر رمضان قبل سنوات، وبرغم من مرور أكثر من عشرين عامًا على عرضه لكنه لا يزال محتفظًا بمكانة كبيرة في قلوب المشاهدين حتى هذه اللحظة.
د. أحمد مصطفى
تحليل نقدي رائع للشخصيات وعرض جيد للأحداث. رادكم الله علما معالي الدكتور