قد يرى العرب أنه من الصعب عدم الخروج من المنزل لمدة يوم او اكثر كوننا اعتدنا على التواصل مع أصدقائنا واقاربنا وكوننا شعوب اجتماعية بالفطرة يدفعها موروثها الديني والثقافي للتفاعل مع المحيط ويصعب علينا ترك كل هذه العقلية والتقوقع في المنزل تاركين خلف ظهورنا الكثير من الأحاديث الجانبية والقصص التي طالما اضفت روح الدعابة والمرح على روتيننا اليومي.
لكن بعيدا عن العقلية العربية حيث يضع اليابانيين معايير مختلفة لضبط حياتهم ويستندون لموروث مختلف تتنشر ظاهرة تسمى الهيكيكوموري وهي تعني الانعزال الاجتماعي والتقوقع حيث يمضى البعض سنوات دون الخروج من المنزل ويقتصر تواصلهم مع ذويهم ويعيشوا عالماً افتراضياً موازي وسط انفصال تام عن الوسط الخارجي.
يعود أصل التسمية للطبيب النفسي الياباني تاماكي سايتو الذي يعتبر من أوائل من شَخَصَ هذه الحالة في اليابان حين قدمت له حالات تملك هذه السمات لأول مرة. لا يعتبر الشخص يعاني من الهيكيكوموري والذي يعد أقرب الى الاضطرابات النفسية الا بعد مرور 6 اشهر على اخر تواصل له مع العالم الخارجي ويرفض الذين يعانون من الهيكيكوموري مغادرة المنزل رفضا قاطعا حتى لمزاولة العمل أو التعليم مما رفع من حالات التسرب الدراسي لدى الكثير من المراهقين اليابانيين فما القصة؟
يعد المجتمع الياباني من أكثر المجتمعات تطورا فالعالم ويتسمى بالانضباط وروح التنافسية العالية كما أنه يضع معايير مرتفعة جدا للنجاح يصعب تحقيقها على البعض. فواقع اليابان الصناعي يفرض ضغوطا كثيرة على اليابانيين كما أن نظام التعليم في اليابان يضع معايير نجاح صعبة ترتقي للكمال، كل هذا يجعل اليابانيين امام خيارين اما النجاح أو النبذ كونهم لا يرتقون لتوقعات العقلية اليابانية التي ترى نفسها بتنافس محتدم مع الغرب وتسعى لتجاوزه ولو على الصعيد الاقتصادي.
وحتى وإن نجح الكثير من اليابانيين من تجاوز هذه العقبات فإن الكثير منهم يٌستنزف جسدياً وفكرياً جراء سعي الشركات والمؤسسات خلف الكمال فيجد نفسه يعاني من الفشل الاجتماعي وغير قادر على التماشي مع هذا الواقع ، فينخفض تقديره لذاته ويجد الحل في الانعزال وعدم التواصل مع العالم الخارجي ويسعى لخلق عالم افتراضي موازي اقل وطأة عليه ويتقبله بمعايير أكثر منطقية من تلك المتبعة فاليابان.
بدأت القصة في تسعينيات القرن الماضي او ما يسمى يابانياً بالعقد المفقود حين عانت اليابان من ركود اقتصادي حاد دفع الكثير من الشركات لتسريح الكثير من العاملين تجنبا الإفلاس فوجد الكثيرون ممن تربوا على معايير الكمال أنفسهم عاطلين عن العمل فشكل ذلك صدمة كبيرة لهم فمالو الى الإنعزال.
انتشرت الحالة اكثر وخصوصا بين الفئات الشابة وعانت اليابان من التسرب الدراسي ونقص اليد العاملة حتى وصل عدد المصابين حاجز المليون شخص والمعرضين للإصابة قرابة المليون ونصف، فوصفت اليابان إعادة دمج هذه الفئة بتحدي العُشرية خصوصا انها اكثر عرضة للانتحار
ساهم ادمان الانترنت في انتشار هذه الظاهرة اكثر فوصلت لدول شرق اسيا ويعتبر الأطباء ان العلاج النفسي السريري الطريق الصحيح في رحلة إعادة تأهيل المصابين كما ان مضادات الاكتئاب قد تساهم في تخفيف وطأة بعض الحالات وتمنعها من التفشي وبالتالي ان تقود للانتحار.
ربما تحتاج اليابان الى إعادة النظر في هيكلية نظامها الدراسي أو يحتاج المجتمع الياباني لمزيد من التفهم لمن يعارض التيار التنافسي ويود اختيار أسلوب حياة مغاير مما يخلق واقع متوازن يلبي واقع اليابان الصناعي من جهة ويضمن سلامة مواطنيه من جهة أخرى.
وعلى العائلة ان تلعب دورها في الحفاظ على الصحة النفسية لأبنائها وعدم السعي وراء الكمال وألا تؤطر النجاح فكلٌ له مميزاته واهتماماته وعليه يجب احترامها حتى ولو لم تكن ضمن رؤية الأهل الفكرية.
ورشة الفضاء الحر