تجليات العاطفة في ديوان “شذا الخواطر” ل أ. عمر عبدالرحمن نمر

الأديبة نجاة كلش، منشورات الجمهور العربي لنشر وتوزيع الكتب، مصر، القاهرة
يقع الديوان في 60 صفحة من القطع المتوسط… ويتضمن إهداءً، ومقدمةً وفهرساً…
بداية، استوقفتني الألف في شذا هل هي قائمة أم مقصورة؟
تكتب بالألف الممدودة القائمة هكذا «شَذا» والشذا: الرائحة الطيبة. أما «شَذَى» بالألف المقصورة فمعناها الأذى والشر كما ورد في معجم مقاييس اللغة (ش ذ ي).
وهذه فائدة لغوية ما بعدها فائدة… إذ الألف انقلبت عن واو… فرسمت قائمة… وإذ الروائح الطيبة تعبق بالمحيط، وأنت تقرأ الديوان… فكأنك في بستان تنوعت زهوره… وتفتحت وروده… ففاض عطرها وعبقها في الفضاء…
أول ما لفت نظري في الديوان، تلك الحالة الطربية التي تتولد من تآلف الصور وتواليها بسلاسة وعفوية… وكأنك أمام شريط للصور المنوعة المتتالية والتي تضفي على المشهد حالة من الجمال الشعري، المميز ببداهته وطبعه التلقائي… ولكي لا يرمى الكلام على عواهنه ندلل على توالي هذه الصور في المشهد البانورامي:
“كملاك طاهر ظهرت… كنسمة صبح عليلة مررت… كألوان قوس قزح هللت… وبأجمل حرف وكلمة همست…” ص7
أي مخلوق هذا التي ظهر كملاك… كنسمة صبح… وتزيّن بألوان قوس قزح؟
ويتمازج هذا الخليط البصري مع خليط آخر… ويتم التفاعل في بوتقة شعرية جديدة… مزجت الجمال بالمرارة… والحلاوة بالبؤس والشقاء… ” وبماض مظلم مرير شكوت… وبظلم كبير أقنعت أنك عشت…” وتداخل آخر “وبالله وبعهده أقسمت وأقسمت… أنك لن تكذب ولن تخون ما حييت… ” ص7
وهنا تتولد الدهشة من طرافة التشكيل وجديته… وتزداد الدهشة في فراق هذا المكون الذي تم تفاعله في البوتقة الشعرية… “فوجه الملاك كان قناعاً جميلاً ارتديت… لم يصمد طويلاً أمام الحقيقة التي سترت” إنه الاغتراب الحاد الذي تأتى من الكذب والخداع… وبين الحالة الأولى الجمال والاتحاد… والثانية الفراق والاغتراب… فرق في الشدة… فإذا كانت الأولى في خط الإيجاب فإن الثانية تسكن الخراب والدمار…00
وتتراوح هذه الصور في سرعة تلاحقها، فمنها ما هو بطيء ” يقولون يا أمي: ربيع كل سنة هو عيدك… وأنا أقول لهم: السنة كلها ربيع بقدومك” ص17 فقد استنفد صياغة الصورة حوارية كشفت الفرق بين ما يقولون وما تعتقده الشاعرة…
وفي حوارية أخرى نجد التوظيف نفسه، وحتى الضمير المحاور ” هم ” و “نحن”
قالوا: الوطن علينا غالي… قلنا وأغلى وأغلى من غالي.. قالوا للبيت رب يحميه… قلنا: وبكل عزيز وغالي نحميه… قالوا العدا جاثم فوق أراضيه… قلنا نحرق الأرض من تحتيه… ” ص24 وهكذا تنتهي الحوارية بين قالوا وقلنا… مطلقة مجموعة من الصور التي تتحدث عن الوطن والوعي بالانتماء إليه…
وقد تزداد هذه الصور سرعة، لتوصل رسالتها الصاخبة في روع المتلقي… حيث تتسارع الحروف… وتتنافس العبارات في الظهور…ويكون الاضطراب ” تتزاحم الحروف والكلمات… تتسارع المعاني… تتلاطم المشاعر… تتسابق حبات اللؤلؤ للانحدار من عيني…” ص10
نعم، لقد وظف هذا النهج وباقتدار، في نصوص شعرية حكائية… تفيض حباً وجمالاً… وما أن تستقر في النفس حتى تكون الصدمة المفاجأة والمفارقة الضدية…” التقينا بلا موعد يوماً… والتقت القلوب المتعبة سراً… وباحت بأعذب المشاعر صمتاً… كان اللقاء بلا موعد… وكان الغياب أيضاً…” ص13
عبارات قصيرة عبرت عن مشهد حب تولد بلا موعد… تعزز بتوظيف الحال النحوي “سراً… صمتاً” لكنه حب لم يصمد فقد تهاوى، وختم بالغياب… وموت المشاعر…
” تهاوى الأحلام من شرفة رمادية…تسقط صريعة على منعطفات جانبية… كانت يوما أحلاماً وردية… تسكن أبراجاً سماوية… قالوا: وهل تموت أحلام وردية… استوطنت قلوباً نديةً نقيةً… قلت: نعم… نعم…” ص27 تأمل مقدمة النص… ثم الحوارية… ونتيجة هذا الحب المتهاوي، الحب الذي يتراوح بين ثنائية الحضور والغياب… الجمال والقبح… الانتماء والاغتراب…
ومن هذه العلاقة الجدلية تستخلص الشاعرة مفهوم العاطفة تبعاً لرؤيتها ففي صفحة54 تقول ” الحب أعظم المشاعر… وأرقاها في الوجود… وهو نعمة ورزق من الله المعبود… وعنوان الإنسانية… وفي الفؤاد الرقيق موجود… وسمو للنفس… وللحياة بهجة وسرور… وأعظم من كل وصف وبوح وشعور…”
إنه المفهوم المثالي للحب، الحب الصادق النقي، الذي لا تدنسه الشرور…
وتفصل الشاعرة في أنواع الحب ومراتبه بعد بيان المفهوم، ” وله مراتب أعلاها حب المولى ونبيه الطهور… وللأوطان نصيب من الحب في القلوب كبير… وحب الحبيب والأهل والقربى ولمن حولك…وحب الخير للإخوان… ” ص54

Elking, [15.06.2024 15:41]
إذن تتدرج مراتب هذا الحب… فهو يعبر عن حالة روحية صوفية تتمثل في حب الله ونبيه… ثم تأخذ التضحية في سبيل الوطن، حتى يصل إلى الأهل والأقارب… ويلاحظ أن هذه العواطف ومهما كانت مرتبتها أنها صادقة نقية… تخلو من الخداع والغياب…
وقد اقترب الحب الإلهي عند الشاعرة من الحب الروحي الصوفي وترجمته إلى نوع من المديح والحمد والشكر:
” الله أكبر كبيرا والحمد لله كثيرا… له الحمد على نعمة الإسلام والشكر الجزيلا… في كلمة التوحيد والصلاة له تعظيما… والزكاة للمحتاج ولنا تطهيرا… والحج فرض على من استطاع إليه سبيلا… في ذي الحجة وأعظم أيام عشر… أقسم بها الله تعالى وبالفجر… “ص16
تشعر وكأنك تلبي مع حجاج بيت الله الحرام… والشاعرة ترسم طريق التوحيد… وسبل الممارسات الإسلامية الحقة…
وتتجلى ثورة الشاعرية… وينطلق الإحساس الصادق في عيد النبي محمد صلى الله عليه وسلم ” في يوم ميلادك شع النور… وازدان العالم بالفرح والسرور… واحتفى الوجود بكل زهو وحبور… وتطهر من الخبائث وكل الشرور” ص47
إنه ميلاد سيد الخلق… فمن البدهي أن يتزين المحيط بالجمال والفرح والسرور… ومن البدهي أيضا أن تنتفي في ذاك اليوم الخبائث والشرور…
بقي أن نقول، أن الديوان تضمن سرديات نثرية (لا مجال لنقاشها في هذه المحاولة النقدية) فهي المختلفة عن سابقاتها الشعرية، ولكننا نذكر عناوينها:
من أرشيف الذكريات ص39
جزاء الإحسان ص42
دنيا العجب ص52.

أ. عمر عبدالرحمن نمر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *