في البيت المقابل لبيت جدّي يقطن أبو صالح، صاحب قطيع الماعز الذي يخرج به فجراً مع والده أبا علي حازر ولا يعودان إلا عصراً ليبدأ شقاء من نوع آخر، حلب الماعز وتصفية الحليب عبر وضع منديل الرأس الأبيض فوق طنجرة ألمنيوم كبيرة، وهي مهمة كانت ترعاها الحاجة أم علي زوجته التي تشاركه التعب كل يوم.
ضمن هذا القطيع، كان هناك كلباً مرافقاً أطلقوا عليه اسم بطّاح، أظنّه من فصيل الشيان لو، أشقر الشعر، إفرنجيّ. كنتُ أركب هذا الكلب كأنه حصان، وكان يتقبل رذالتي دون تأفف يذكر. الكلاب يميّزون بين شقاوة الصغار وصلف الكبار.
في هذا المشتى القريب قضيت الكثير من ساعات طفولتي مسحوراً مبهوراً بحيوانات أليفة ملوّنة بين الأسود والبنّي والأصفر، والأبيض الموشّح بالرماديّ. كنتُ أمشي وراءها فوق إسفلت القرية، مترصّداً تلك الحبيبات السوداء التي يخرجونها أثناء المشي. في أنصار كما في كل القرى، كان اقتناء الماشية طبيعياً في أكثر البيوت، فهي تساعد على الاكتفاء الغذائي لسكان المنزل، أو بيع ما يفيض من الحليب للناس. من رعاة الماعز في أنصار نذكر إبراهيم عيسى جفال، وأبو سعيد الغول، وأحمد قبيسي، وهناك حوالى خمسة بيوت من آل الرومي اعتمدوا على رعي الماعز والأغنام. أما آل الخليل (البيروتي) فقد عرفوا بداية برعي الأغنام والزراعة قبل أن يشتهروا بمعصرة الزيتون التي صارت معلماً مركزياً من معالم أنصار. من الذين اقتنوا الأبقار في البلدة هناك موسى حسن عاصي، وموسى المصري، وعبد الله صفاوي، وحسن صفاوي، وغيرهم كثراً، أما الجمال فلم تكن بهذه الكثرة وأشهر من اقتناها الحاج حسن شعيتاني. كان نمر مخدر وعبد الله صفاوي ممن يشرفون على ولادات البقرات، وكان يتم استدعائهما في الأوقات العصيبة، تحديداً حين تتعثّر الولادة.
للفرَس حضورٌ في أنصار لما لها من دور في التنقل والسفر ودرس القمح، وقد اقتناها –على سبيل المثال- ابراهيم فياض (تم تنييل فرسه حين موته وساروا بها أمام جنازته) ومحمود جفال (أبو عيسى) وصلاح فياض.
غالباً ما كانت بِركة الضيعة مقصداً للرعيان لسقي مواشيهم، بينما كان علفهم محل قلق من قبل أصحاب المزروعات الذين يخشون من غزوات “الطَرش”، وهو ما استوجب تعيين نواطير للحقول لحراستها. أشهر نواطير أنصار: أحمد جواد القاضي، أسعد عاصي، جميل حازر، وأبو طالب الماروني.
كانت الأبقار جزءاً متصلاً بيوميات العائلة، وغالباً ما كانت شريكة النوم في ذات الغرف، حيث كانت البيوت مؤلفة من غرفة واحدة، ومن كان يمتلك غرفتين يكاد يوصف بالثراء حينذاك. خمّ الدجاج كان ضرورة لكل أسرة، حيث كان البيض طعاماً رئيسياً يستهلك بشكل شبه يومي، بين القلي بزيت الزيتون، والسلق في سطل المياه المعدني.
اشتهر الرعيان بمهاراتهم في العزف على الناي والمنجيرة. هي سلواهم في ساعات النهار التي يقضونها دون أي احتكاك يذكر بالبشر. كأن عزف النهارات بروفات تحضيرية للأفراح العامة بحيث يتصدى الراعي للعزف في الأعراس وهو بكامل أناقته.
كان محمود محسن لحاف مغنياً، وشاعراً زجلياً يمدح العرسان في الأفراح ويرثي الأموات حزناً. كانت تجري جلسات الشعر أحياناً ويقوم عبد الله شرف بضبط إيقاع الجلسة لغوياً مصححاً لهذا ومصوّباً لذاك. كان هذا الإسكافي طاقة ثقافية قدمت روحاً مغايرة لأنصار
الكاتب عبدالحليم حمود