لا يعرف عبد الحليم حمود، عدد مؤلفاته على وجه الدقة، غير انها قاربت المئة والخمسين، بين الشعر، والبحث، والنقد، والسيَر الغيرية، والألبومات الفنية. لكن إذا ما سألت حمود عن فنّه الأقرب إليه، فسوف يجيبك بفن الرواية، كحقل واسع تجتمع فيه باقي المجالات من التاريخ، إلى العلوم، والنظريات، والشعر، والتسلية، وعلم النفس، والفنتازيا. منذ مدّة وأنا أتحيّن الفرص لاجراء لقاء حواري مع حمود، مدفوعة بالفضول لسبر عوالمه، حتى لو كان صديقاً عزيزاً منذ سنوات، وبالتالي أعرف بعض آراءه، وخلطاته السرّية، انما غالباً ما يطغى الجانب التشكيلي على تلك الأحاديث، فأفوّت على نفسي معرفة خبايا براعته في نسج الحبكات، وغزارته الانتاجية، دون فقده لزمام نصّه، وسمات أبطاله، ودون أن يهمل أناقة حرفه، وسحر مخيلته، وأنا أؤمن بأن من يكتب بهذه الطريقة، فهو يستخدم قطعة من روحه، ليضعها على الورق، كروح ثانية، يتشاركها مع القراء.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
تعمّدته حواراً حول الرواية، دون التشعب في الاقانيم المتعددة في شخصية عبد الحليم حمود، بغية استطلاع منابعه، والعناصر التي ألّفت شخصيته الأدبية، فكانت الاسئلة الضرورية عن نظرته للرواية، تأليفاً، وغايةً، مع الاطلاع على مواقفه من الرواية، نوعاً، وحجماً، ومشروعاً:
ـ هل ثمّة جدوى من فعل الكتابة، كوسيلة تغيير ذاتي او اجتماعي عام؟
ما مِن تغيير عظيم يحدث للمجتمعات من خلال رواية، أو لوحة، لو سمفونية، لكن هناك انزياحات لا بأس بها، تحدث للأفراد، أو الجمهور المستهدف، وهو في الغالب حلقة صغيرة مهما كان عددها. المجتمعات تتبدّل بعوامل أكثر حدّة، مثل الحروب، الازمات الاقتصادية، تفشي الأوبأة، أو طفرة نفطية. بينما ينطبق على الثقافة مصطلح “الحرب الناعمة” حيث تضافر مئات المنابر، والمقالات، والعظات، والافلام السينمائية..إلخ والكثير من الوقت لتمرير تلك الرسائل وترسيخها.
ـ والكتب السماوية؟لم تنوجد ككتب بالمعنى الذي نعرفه اليوم كصفحات بين دفتي كتاب. هي سلوك، وأقوال، كما حصل مع الاناجيل، وكان التغيير بواسطة بولس، وليس المسيح، إذا ما تابعنا السياق الذي جرى أنذاك، كما آمن الناس بمحمد، قبل ايمانهم بالقرآن، بطبيعة الحال، كونه لم ينزل دفعة واحدة، فكان “الوحي” محرّك أوّلي، وغير كافٍ لإحداث تغيير جارف. ثم كان الاصرار، والحفر اليومي، وتحيّن الفرص، والهجرة، لخلق الكوّة، التي راحت تتّسع رويداً رويداً، ليكون التوجيه الإلهي عين مواكبة بالحكم، والقوانين، فكانت المشافهة أداة الانتشار، وليس الكتاب.ـ البعض رأى في “يوري” نبيّاً من هذا الزمان، يشبه انسان اليوم الذي يريد تجربة كل شيء، وخوض جميع الميادين، على أن يكتسب الحكمة بطبيعة تكثيفه للتجارب، أتوافقهم القول؟قد يكون يوري نقيض النبوة بمعناها اليوتوبي، لذلك أصفه بـ “آخر الانبياء وأول الشياطين”.
ـ أبطال رواياتك يتشاركون الحسّ النقدي اتجاه الحياة، والموت، والأمومة، والذكورة، والأديان، بشكل لا نراهم قانعين بالمسلّمات المتفق عليها. نستنتج بذلك انّك غير راضٍ عن كل شيء؟
ليس اعتراضاً بالضرورة، بقدر ما هي محاولات لإعادة تعريف الأشياء، والمواقف. لا أسلّم بكل فكرة جاهزة، والأخطر اذا كانت شائعة. اجماع الناس على موقف واحد، يثير ريبتي. البشر غائيون، لا يبتغون الأصلح، بل الأقرب لحاجاتهم. قد يتفقون على أمر محقّ، بينما دور المثقف التحقّق، وتشريح الحالة، وتفكيكها.ـ جهد يندرج ضمن اختصاصات متنوّعة، فلماذا يتعب الأديب بمجالات ليست من ضروريات الأدب؟الدراسات الاكاديمية شديدة الحذر اتجاه تقديم الاستنتاجات، واستشراف المآلات. يهتمون بما حصل، فيترصدونه، محاولين رسم الخرائط لبناء تصوّر عام. دور الأدب الاستفادة من تلك الأرقام، والخلاصات، بغية إعادة طهيها، وتأليفها، بليونة ابداعية، وجرأة، كون الأدب ليس مختبر أدوية، ولا مرصد ريختر للزلازل.
ـ حسناً، لماذا تكتب، وكيف تصف فعل الكتابة عندك؟
الأمر يشبه تفريغ مخزن من “كراكيبه”، استعراض الأغراض في الخارج، بغية فرزها، إعادة ترتيبها، أو ربما رميها في أقرب حاوية نفايات. أثناء تلك العملية، تتولّد مشهديات غرائبية، بفعل تلاصق القطع المتناقضة، فتخلق حالة من الغرابة، التي أتبناها، فيبدو ذلك كأنه فعل ابداعي.ـ نحنُ نراك أكثر من مبدع. في نصّك تبلغ مرتبة الجنون الابداعي.حسناً، ربما يعود الأمر لكثرة المتناقضات التي اختزنها في دماغي الطريّ. عادةً لا أنجح في تنسيق الأشياء ومنهجتها، فأضطّر لحشرها على رفّ بلا تصنيف، لهذا أنحاز إلى اندريه بروتون، وبدعته السوريالية، بل أكثر من ذلك، أجد نفسي دادائيّاً، أغرف من نبع تريستان تزارا، ولو انه قد مضى على الأمر ما يفوق المئة عام.ـ لكننا حين نقرأ رواياتك لا نرى العبث السوريالي الصريح، بقدر ما نجد العبثية عند بعض أبطالك، مثل يوري، وهيلدا، وأسمر.إذاً لقد وفِّقتُ في عملية إخفاء “ماكتّات”
خرائطي. خلف كل اختراع منظّم، ثمّة مسوّدات متشابكة الخطوط حدّ انتفاء الشكل، إلى أن تتبلور الفكرة، فيتقدّم النموذج النهائي إلى المتلقّي الذي لم يرَ “شخبطات” الكواليس.ـ كم مرّة تعيد قراءة روايتك قبيل دفعها للمطبعة؟هناك فصول أو مقاطع أعيد قراءتها ثلاثين، أو أربعين مرّة، كأنني مايسترو يولّف التناغم بين الآلات، فلا يتغلب صوت الساكسوفون على البيانو، ولا يضعف الكمان أمام الطبل. أشتغل كثيراً على الهارموني.ـ وبعد خروج الكتاب من المطبعة، ألا تندم على النتيجة النهائية؟صراحةً، لا أعيش حالات القلق. أتقبّل الكتاب بعض الطبع كما هو، وقد أعدّل جملاً قليلة ان كان هناك من فرصة لطبعة ثانية، وهو ما حصل فعلاً مع روايتيّ “بوتوكس” و”يوري”. في الأولى أضفت جملاً، وفي الثانية حذفت جملاً.ـ هل الأمر يتعلّق بالجرأة التي تميّز كتاباتك، فتعيد صياغة الجمل بما يخفّف من وطأتها؟أبداً، هي مسألة لغة، وتنسيق لا غير.ـ من هو القارئ الذي تستهدفه؟لا أحبّذ التصنيفات، الجميع قادر على القراءة، وتشكيل موقف نقدي منها. لذلك أنصت بدقة لجميع الملاحظات، وكثيراً ما غيّرت في سياقات رواياتي، وخطوطها الدرامية، كرمى لصديق قرأ قبل الطبع، ولفت نظري إلى ثغرة هنا، أو إطالة هناك. أستجيب، وأعدّل، غير آبه بالتصنيف العلمي لهذا الصديق.ـ ماذا عن طقوس الكتابة، هل تعتمد نمطاً لناحيتي المكان، أو التوقيت ضمن ساعات النهار؟من المؤكد انني لم أنجز نصاً واحداً في مقهى. لا أخرج لأكتب. جلّ كتاباتي ليلية، ومن على السرير. أكاد لا أؤمن بالكنبة كوسيلة جلوس! إضافة إن طبيعة حياتي خالية من الضجيج. أجالس نفسي معظم الأوقات. في العادة يرافقني كوب شاي، أو نسكافيه. ـ هناك صورة نمطية يشيعها البعض بأن الكتّاب يستهلكون علب السجائر، أو كؤوس الخمر، أو حتى يتعاطون حشيشة الكيف كوسائل مساعدة على تليين المخيلة، وتسهيل المخاض الابداعي.البعض كذلك فعلاً، ومنهم من اكتشف متأخراً انه كان أسير آلية وهمية لا تقدم ولا تؤخر. غالب الظن ان الكاتب يحتاج ان يشغل أصابعه وحواسه لحظة الفعل الابداعي، بغية ترويض الملل في تلك الهنيهات الصامتة التي ترافق جلسته الطويلة. من ناحيتي، الشاي يفي بالغرض.ـ هل تكتب روايتك دفعة واحدة أم على مراحل؟في الغالب، أكتب على مراحل، اسبوعين، ثم اتوقف، ثم أعاود الكرة بعد انقطاع، غير ان الأمر برمته ينتهي في غضون أشهر. باقي الوقت هو للمراجعة، والدوزنة. لقد شذّ الحال عندي مع “وهم الأنا” التي قصدت بلدتي الجنوبية بهدف انجازها، فتطلب الامر أربعين يوماً، تخللها استراحات مدينية. بعد ذلك استهلكت كامل وقتي للشغل عليها.ـ ما هي منابعك، ومصادرك، حين تنزوي لانجاز نصك؟كأنني في متجر، أتبضّع من كل شيء: سيرتي الذاتية، معلوماتي الثقافية، حكايات الاصدقاء، اقتباسات الفلاسفة، أخبار الصحف، كل هذا أصهره في قِدر كبير، بعد أن أضيف ألعاب المخيّلة على جميع تلك المكوّنات.
ـ والرسام الذي يسكنك، ماذا يضيف لنصّك حين تكتب؟
الوصف من علامات الرواية الحديثة، حالة تحتاج عين ثالثة، ورابعة، وخامسة. هنا أستحضر جنّي التشكيل ليرفدني بالمفارقات، والتباينات، والعناصر البارزة، وتلك الضامرة، والسحنات، والتعابير، والجماليات الكامنة في الركام، والزجاج المكسور، والغبار المغلّف للرفوف، والبخار على المرايا. التشكيل يضاعف انتباه للعين.
ـ البعض صدّق ان “أم عساف” شخصية حقيقية، و”منظمة النضال الثوروي” كذلك، وخال ان “أسامة” شقيقك الحقيقي. كيف تنجح في خداع القارئ؟بالفعل، الكثير من أحداث رواياتي حقيقية، ومن الممكن التحقق منها عبر محرك البحث “غوغل”، غير اني أوظّف تلك الأحداث لصالح سياقات روايتي، فأخرج الحدث من نكهته اليومية، لأعطيه بعداً أدبياً. استلذّ بالمزج بين الواقعي والمتخيّل.ـ نرى ان أحجام رواياتك متوسّطة، لا هي بالقصيرة، ولا الطويلة، علماً ان الميل العالمي اليوم ينحاز للأعمال التي تتجاوز بصفحاتها الخمس مئة. هل هو قرار مسبق؟أنا أكثر ميلاً لهذه الأحجام المتوسطة، فأكتب بالقدر الذي أفضل قرائته، لذلك يطيب لي انجاز الرواية حتى أفكر بأخرى، على أن أحدل الأحداث وأمدّها على مدى صفحات لامتناهية. لقد نجح ستيفان زفايغ في روايته “لاعب الشطرنج” في انجاز رواية صغيرة، وعميقة في آن، تكتمل فيها الشروط اللغوية، والمجازية، والحدثية، والبحثية. قرأتها بشغف، بينما أصابني المل لمرات وأنا أقرأ “كافكا على الشاطئ” لموراكامي.
الكاتبة الصحفية باسمة عطوة